*

كلمة المحامي أنور البني في الاجتماع 31 لشبكة التحقيق والادعاء في جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب ومنظمة العدالة الأوروبية عبر الحدود، في مدينة لاهاي 6-4-2022

السيدات والسادة.

أودّ أن أعبّر عن سعادتي الكبيرة بالتواجد هنا، أشكركم على الدعوة

في البداية أودّ أن أضعَكم في السياق السوري لمعرفة ما يعنيه قرارُ الحكم في كوبلنتز.

منذ استلام الأسد الأب للسلطة سارع لوضع يده على القضاء، فعدّل تشكيل مجلس القضاء الأعلى عبر دستوره عام 1971 وجعله تابعاً له مباشرة وتحكّم به، ففقد القضاء في سوريا استقلاليتَه وحيادَه ونزاهتَه عبر إدخال الموالين فقط لسلك القضاء وطرد كلّ مخالف. ومنح الأسدُ نفسَه حصانة دستورية كاملة عن كلّ الجرائم التي يرتكبُها.

وأصدر قوانين تمنح حصانة كاملة لعناصر الأمن والعسكريين ورجال الشرطة من الملاحقة عن الجرائم المرتكبة من قبلهم بمعرض قيامهم بعملهم، وعلّق تحريك دعوى الحقّ العامّ ضدهم بالحصول على موافقة من رئيس إدارة أمن الدولة بالنسبة لعناصر الأمن، والحصول على موافقة وزير الدفاع بالنسبة للعسكريين وعناصر الأمن العسكري والشرطة والأمن السياسي.

ذكرت هذا السياق القانوني ليكون لديكم فكرة عما يعنيه وقوف هؤلاء أو أحدهم أمام القضاء ليحاكَم عن الجرائم التي ارتكبها، ولتعرفوا كم كان ذلك بمثابة حلم غير قابل للتحقق في سوريا،

كان السوريون عبر كل تاريخ عائلة الأسد الإجرامي الممتدّ خمسين عاماً ضحايا أو مشروع ضحايا في كل وقت، غيرَ قادرين تماماً على صدّ أي انتهاك أو جريمة، وغيرَ قادرين على محاسبة المجرمين. ونستطيع أن نفهم لماذا كل التغييرات القانونية، بما فيها القانون الأخير حول تجريم التعذيب الصادر عن مرتكب التعذيب، غيرُ ذات جدوى طالما ما يزال المجرم محمياً من العقاب، كما يمكننا أن نتفهّم خوفَ السوريين الدائم من البوليس والمدعين العامين لأن دورهؤلاء بالنسبة لهم هو ملاحقتهم وإدانتهم وحماية المجرمين الحقيقيين.

هذا النظام الإجرامي الذي ارتكب منذ تسلّمه السلطة وحتى عام 2011 انتهاكات كبيرة لحقوق الإنسان تمثّلت بقمع حرية التعبير واعتقال وتعذيب وإخفاء الآلاف، وارتكب جرائم حرب لعل أهمها مجزرة سجن تدمر 1980 حيث قتل الجيش أكثر من 800 سجين أعزل في غرفهم في سجن تدمر العسكري، ومجزرة حماه 1982 حيث دمّر جيش النظام مدينة بكاملها وقتل مايزيد عن 40 ألف مدني فيها ودفنهم في مقابر جماعية، ومازال حتى الآن حوالي 5000 منهم مفقودين.

وبعد عام 2011 ارتكب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب فظيعة، حيث اعتقل وعذّب أكثر من نصف مليون سوري، مازال 150 ألف منهم مختفين قسرياً، وقتل بسبب ظروف المعتقلات وتحت التعذيب أو بوسائل أخرى منها المشافي بواسطة الأطباء والممرضين أكثر من 80 ألف منهم، وذلك حسب توقعاتنا بناء على توثيق شهادات الضحايا الناجين، واستخدم الاعتقال والتعذيب كأداة لترهيب وتركيع الشعب السوري المسالم المطالب بالحرية والديمقراطية،

هذا النظام المجرم الذي هجّر قسرياً أكثر من نصف الشعب السوري بين لاجئ ونازح، وبدأ جريمة تغيير ديمغرافي باستيراد مرتزقة من إيران وأفغانستان والعراق حاربوا معه، وقام بتجنسيهم وتمليكم عقارات السوريين عبر قوانين جائرة أشهرها القانون رقم 10 / 2018 للحلول محل الشعب السوري المهجّر قسراً.

 دمّر أكثر من 20% من البنية التحتية المدنية بشكل كامل و60% بشكل جزئي، وقتل آلاف المدنيين عبر قصف الأحياء السكنية والمدارس والمستشفيات والأسواق الشعبية بالطائرات والصواريخ والمدفعية والبراميل المتفجرة، واستخدام السلاح الكيماوي الممنوع دولياً أكثر من 300 مرة ضد المدنيين وقتل الآلاف . وقد أثبتت لجنة التحقيق التابعة لمنظمة حظر استخدام الأسلحة الكيماوية استخدام النظام لهذا السلاح عبر ثلاثة تقارير بأدلة مؤكدة، وقد شارك كل من نظامي الإجرام في روسيا وإيران في هذه الجرائم بشكل كبير.

وقد بذلت المنظمات السورية جهداً كبيراً، ودفع الكثير من النشطاء حياتهم ثمناً لتوثيق هذه الجرائم وإيصال الأدلة والصورة الحقيقة لها. ووثقت اللجنة الدولية للتحقيق التابعة لمجلس حقوق الإنسان عشرات الآلاف من الأدلة والشهادات على هذه الجرائم.

وتقوم الآلية الدولية المستقلة بجهد كبير ومميز بجمع هذه الأدلة وتحليلها وأرشفتها لتكون أدلة قابلة للعرض أمامكم.

لذلك لم يستوعب السوريون بشكل عام، والضحايا بشكل خاص، الخطوات المهمة جداً التي حصلت سابقا وتمثّلت بفتح تحقيق من قبل المدعي العام الألماني بحق مسؤولين عاليي المستوى من النظام السوري، بمن فيهم رأس النظام، بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، بعد تقديم أربع ملفات قضائية أمامه عام 2017، وقيام المدعين العامين في النمسا 2018 والسويد والنرويج 2019 وفرنسا 2016 بفتح  تحقيقات مماثلة كما لم يقدّروا قيمة صدور مذكرة توقيف دولية بحق مسؤولين برتب رفيعة من المدعي العام الألماني والمدعي العام الفرنسي، لأنهم لم يلمسوا نتائج حسية على صعيد اعتقال المجرمين أو وقف الجرائم التي ماتزال تُرتكب في سوريا من قبل المجرمين. ونأمل بشدة أن يزداد عدد مذكرات التوقيف الصادرة عن كل المدعين العامين الذين ينظرون في هذه القضايا.

ولكن بداية المحاكمة في كوبلنتز وصدور قرار إدانة عنها شكّل صدمة إيجابية كبيرة للسوريين وبشكل خاص للضحايا، لأنهم لمسوا إجراءات حقيقية، ورأوا مجرمين قد أصبحوا وراء القضبان ويحاكمون. وهذا كما قلت كان حلماً بسبب ترسّخ ثقافة الإفلات من العقاب في وعي السوريين.

وظهرت هذه الصدمة الإيجابية واضحة لدى الضحايا بارتباكهم عند تقديم شهادتهم وكأنهم غير مصدقين أنهم في موقع الاتهام لا الإدانة، كما ظهرت بشكل أكثر وضوحاً عند صدور الحكم وردة فعلهم تجاهه.

كان للمحاكمة والحكم أثر إيجابي هائل على السوريين داخل وخارج سوريا، فقد لاح أمل وضوء في محيط الظلمة الذي يعيشون فيه، بعد الإحباط واليأس وفقدان الأمل طوال عشرة أعوام، وبعد استمرار مشاهدتهم المجرمين يمعنون بارتكاب الجرائم أمام أعين العالم كله دون أي تحرّك حقيقي، مع تجاهل تام لقضية المعتقلين والمختفين قسراً. ورغم وجود صور ملف قيصر التي فضحت الإجرام اللامتناهي الذي ارتكبته طغمة المجرمين، لم يشهدوا أي ردة فعل أو تحرّك لإيجاد حلول لهذا الملف.

يمكنكم أن تتخيلوا قيمة قرار حكم بحق مجرم كان بنظر السوريين كإله لا يمكن المساس به.

مع وجود بعض الثغرات التي كان يمكن تداركها كعدم توفّر الترجمة للعربية حتى يكون السوري قادراً على المتابعة المستمرة، وعدم توفّر التسجيل الصوتي للمحاكمة لما لذلك من أهمية قصوى باعتبارها حدثاً تاريخياً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، فهي أول محاكمة لرموز النظام السوري بصفتهم الرسمية، وهي أول محاكمة من قبل قضاء وطني بجرائم ضد الإنسانية، كما أنها المرة الأولى التي يقوم فيها قضاء وطني بمحاكمة مجرمين وإصدار مذكرات توقيف بجرائم ضد الإنسانية بحق مسؤولين كبار في نظام ما يزال موجوداً وفي موقع القوة. كما أنها المرة الأولى التي تبدأ فيها إجراءات لمسار العدالة قبل الوصول لحلول للأزمة.

كما شكّلت المحاكمة والحكم صدمة سلبية كبيرة لدى المجرمين ومن يدعمهم، حيث كان شعور الحصانة والإفلات من العقاب يلازمهم ويعطيهم الأمان لارتكاب المزيد من الجرائم، ولم يخطر على بالهم ولو للحظة إمكانية أن يواجهوا العدالة ويدفعوا ثمن جرائمهم.

ولا يمكننا نكران أنه كان هناك انتقادات للمحاكمة في بدايتها ناجمة عن إحباط ويأس لدى البعض من استمرار الجرائم وعدم توقفها، وبسبب عدم وصول المعلومات وثقافة منع الإفلات من العقاب لدي البعض، أو ناجمة عن موقف سياسي باعتبار المتهم كان قد أدعى الانشقاق ودعم المعارضة، أو عن موقف ديني مذهبي.

ولكن هذه الانتقادات انحسرت بشكل كبير بعد صدور الحكم وتبيان الحقائق كاملة حول الجرائم التي أدين المتهم بارتكابها، وكذلك بسبب الجهود الكبيرة التي بذلها حقوقيون وإعلاميون لبيان أهمية المحاكمة وتأثيرها وضرورتها، فظهر تأييد واسع بعد صدور الحكم للقرار ولمبدأ العدالة كقيمة يبنى عليها مستقبل سوريا دون النظر لموقف المجرم الديني أو السياسي أو القومي.

وقد أتانا هذا التأييد من السوريين خارج سوريا، وجاءتنا سراً رسائل دعم من داخل سوريا من مناطق النظام وخارجها. كما ظهر هذا التأثير الإيجابي بالزيادة الكبيرة في أعداد الضحايا الذين تشجعوا لتقديم شهادتهم والانخراط بقضية العدالة بعدما أعادت المحاكمة والقرار الأمل إليهم. هذا القرار منح الأمل وأبعد حالة اليأس والإحباط وفقدان الثقة بالوسائل السلمية وأبعد شعور الإنتقام عن السوريين.

وهذا يحفّزنا كمنظمات سورية، ونحن كمركز حقوقي، لبذل المزيد من الجهود لمواكبة هذا الأمل ودفعه للأمام وتحقيق نتائج أكثر. وضمن هذه الجهود أنجز المركز، بتمويل ودعم من الخارجية الألمانية، تدريب 30 محام سوري في أوروبا على جمع الأدلة وتوثيق الشهادات والتواصل مع المحامين والمنظمات الأوروبية للتعاون معكم كمدعين عامين ووحدات بوليس في تحضير الملفات وملاحقة المجرمين، خاصة الموجودين في أوروبا، والذين نقدر عددهم بحوالي  1000 من مختلف الفصائل والمجموعات المسلحة، وأغلبهم من النظام السوري، لما لذلك من تأثير إيجابي على احترام مبدأ العدالة كقيمة فوق سياسية، وعلى أمن دولكم، وكذلك على أمن السوريين ومستقبل سوريا. كما أنجز المركز خلال سنوات دراسات ميدانية عن مرتكبي جرائم ضد الإنسانية (ومنها التهجير القسري والتغيير والهندسة الديمغرافيين)، من أفراد وميليشيا عسكرية وجيوش، كما درسنا ارتباطها بقوانين وإستراتيجيات النظام السوري.

ولتحقيق ذلك هناك بعض المعوقات التي نأمل بالتعاون معكم تجاوزها:

1– نحتاج لمزيد من التعاون بين المنظمات السورية ولا سيما المحامين السوريين مع جهات الادعاء العام والبوليس، لا سيما وأن الضحايا السوريين مازالوا يخافون من البوليس، وليس لديهم ثقة كاملة بمسار العدالة. وهنا يكون دور المحامين السوريين ليكونوا حلقة وصل وحلقة بناء ثقة بين الضحايا والبوليس، كما أن المحامين السوريين هم الذين يمكنهم فهم السياق وتحليل وتقييم الشهادة وصدق الشاهد.

2- نحتاج لمزيد من الجهود لتوفير الدعم النفسي للشهود والضحايا المحتاجين لذلك بشدة.

3– نحتاج بقوة كذلك لتوفير حماية للشهود والضحايا وأهلهم الذين مازالوا في سوريا، وقد شهدنا عدة حالات قام النظام بتهديد أهالي الشهود لمنعهم من تقديم شهادتهم أو التراجع عنها. ويمكن تأمين هذه الحماية عبر حماية أسماء وشخصيات الشهود والضحايا أمام المحكمة، وهذا يتطلب تعديل الإجراءات لدى بعض الدول بحيث يسمح للشاهد بإبقاء هويته وشخصيته سرية.

4– تسهيل ودعم وصول شهود مؤثرين ومهمين من خارج الاتحاد الأوروبي، وخاصة عندما يكون هناك تهديد حقيقي لحياتهم.

5- تسريع إجراءات التحقيق وإصدار مذكرات التوقيف لما لذلك من تأثير على الضحايا، وأهميته في عدم السماح بهروب المشتبه بهم، وإبقاء الضحايا والمحامين على اطلاع دائم بتطورات التحقيق.

إن قرار محكمة كوبلنتز لا يعني السوريين فقط، أو العدالة لسوريا، بل يعني المجرمين في كل العالم، الذين كانوا يأمنون من العقاب إما بسبب قوانين وضعوها بأنفسهم، أو بسبب ضمانهم دولة عضو في مجلس الأمن تصوت بالفيتو لمصلحتهم لمنع محاسبتهم.

بعد محكمة كوبلنتز أصبح جميع هؤلاء المجرمين يشعرون بالقلق، لأنه لم تعد إجراءات العدالة تحت سيطرتهم السياسية أو سيطرة حلفائهم.

لو شعر المجرمون بأنهم لن يفلتوا من العقاب لما ارتكبوا أو تمادوا في جرائمهم

لو فعل العالم شيئاً جدياً عندما ارتكب النظام السوري جرائمه الفظيعة ضد الشعب السوري، ولو فعل شيئاً لوقف جرائم بوتين في سوريا وأوكرانيا وجورجيا، لما شعر بوتين وبشار باطمئنان ليستمروا ويتوسعوا بجرائمهم. وربما كنا وفّرنا على الأوكرانيين كل هذا الألم والمعاناة.

إن قرار محكمة كوبلنتز هو رسالة لكل الطغاة والمجرمين بأن زمن الإفلات من العقاب على وشك الانتهاء. أعتقد اعتقادًا راسخًا أنه إذا تم تنفيذ المزيد من الأحكام مثل تلك في كوبلنز ، فسيكون ذلك وسيلة لتحقيق ذلك المساهمة في إنقاذ حياة الآلاف من الضحايا المحتملين في كل العالم.

إن منع الإفلات من العقاب هو أساس الاستقرار ليس فقط في سوريا بل في العالم ، وهذه المهمة على عاتقكم وعاتقنا معا ، ويمكننا جميعا تحمل هذه المسؤولية لجعل العالم أكثر أمناً.

أشكركم على انتباهكم وصبركم

المحامي أنور البني

رئيس المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية