أخبار المحاكماتمحكمة كوبلنتز

من لما فتحت عيوني على الدنيا كانت المخابرات هي الحاكمة بسوريا، وأدواتهم هي التعذيب والإخفاء والأذى لكل شخص قريب من المعتقل

لونا وطفة

بالعودة إلى جلسة الثلاثين من شهر أيلول/سبتمبر، دخل الشاهد الصحفي عبد الناصر العايد الذي تم استدعائه إلى المحكمة بناءً على طلب فريق الدفاع عن المتهم المقدم منهم بتاريخ 09.09.2021. عرَّف عن نفسه بأنه ضابط سابق في سلاح الجو السوري حتى عام 2009 حين ترك الجيش وبدأ العمل كصحفي وكاتب مستقل.

تحدث أولاً عن نشاطه مع بدء الربيع العربي في تنظيم عدة مظاهرات لدعم مصر وتونس، حيث  قرر هو ومجموعة مكونة من ثلاثين شخص تقريباً التظاهر أمام البرلمان السوري بتاريخ 03.02.2011، ولأول مرة تغير موضوع المظاهرة من دعم البلدان الأخرى إلى المطالبة بإنهاء حالة الطوارئ السورية. عرف الأمن السوري بالأمر حتى قبل أن تخرج المظاهرة، وانتشر في الأماكن المحيطة بالبرلمان ومن بينها مقهى الروضة حيث كان السيد العايد مع آخرين من الذين قرروا التظاهر. تم تفتيشهم عدة مرات وأخذ هوياتهم على عدة حواجز انتشرت بسرعة. في إحدى نقط التجمع المُتفق عليها، اقترب الضابط المقدم عبد المنعم النعسان -وهو نائب رئيس فرع الخطيب- من الشاهد وعرَّف عن نفسه وقال له أنه يعرفه بشكل جيد بحكم صداقة قديمة جمعت بينه -أي النعسان- وشقيق الشاهد المتوفى، ونصحه بالاختفاء فوراً من المكان.

لم يلق الشاهد بالاً لما قاله المقدم النعسان، واجتمع بعدها بصديقة صحفية وبالسيدة سهير الأتاسي التي اتصلت به وأخبرته أن الشبيحة يلاحقونها إذ كانت إحدى المشاركات في تنظيم هذه المظاهرة أيضاً. بعد وصول الأتاسي سالمة إليهم، جاء بعدها السيد عامر مطر إليهم وأخبرهم أنه سمع عناصر دورية أمن يتحدثون مع المسؤول عنهم ويخبروه أنهم رأوا السيدة الأتاسي والسيد العايد سوية، وأنهم الآن قادمون لاعتقالهما. ذهبت السيدة الأتاسي إلى منزلها وبعدها بنصف ساعة خرج السيد العايد من المقهى ليتفاجأ بمجموعة من عناصر الأمن هاجموه وألقوه داخل سيارة وانطلقوا به إلى فرع الأربعين. حُقق معه هناك عن عمله السابق في سلاح الجو السوري وعن مشاركته في تنظيم المظاهرات، أثناء التحقيق كان الشاهد معصوب العينين ولكنه يعتقد أن العقيد حافظ مخلوف هو من حقق معه شخصياً. عندما بدأ المحقق سؤاله عن المظاهرات وأجابه الأخير بأنهم يتظاهرون دعماً لثورات الربيع العربي، دنى منه المحقق وطالبه بأن يفتح فمه، ثم وضع على ما بدا للشاهد سبطانة مسدس في فمه وقال له: “أنت كذاب وعميل وأنتوا عم تعملوا هي المظاهرات ليصير هون متل ما صار بمصر وتونس وتقولوا الشعب يريد إسقاط النظام!! واليوم كانت أول خطوة ألكم. نحن مسيطرين على كلشي ولكن إذا صار هالشي وحدا طلع وقال الشعب يريد إسقاط النظام ومس شخص الرئيس بكلمة رح قص جوزة حلقك!!”. ثم قال: “هلأ رح ورجيك قيمتك”، نادى بعدها على عناصره وأمرهم بقوله: “عفسوه!”. وبالفعل انهالوا عليه ضرباً.

أخرجوه بعد عدة ساعات من الفرع واحتفظوا بهاتفه الجوال وهويته معهم وقال له نفس المحقق: “سنتواصل معك بطريقتنا الخاصة، وأنت ستنفذ بالضبط ما نقوله لك!”.

في صباح اليوم التالي، اتصلوا من هاتفه على هاتف صديقة له وأخبروها بضرورة أن يتصل هو بهم، الأمر الذي فعله، أجابه شابٌ وطلب منه أن يأتي لمنطقة حددها له ليستلم أغراضه. ذهب الشاهد إلى المحامي المخفي قسرياً السيد خليل معتوق ليستشيره في الأمر، فأخبره الأخير بضرورة توخي الحذر وبأنها ربما مكيدة منهم لأنهم خائفون من الربيع العربي ويعتقلون النشطاء لترهيب الشعب السوري.

النتيجة أنهم قاموا باعتقاله مرة أخرى من المكان الذي ذهب ليستلم منه أغراضه الشخصية.

نُقل أولاً إلى فرع الأربعين، وليلاً نُقل إلى فرع الخطيب.

في غرفة التفتيش في الخطيب رأى السيد العايد أدوات تعذيب معلقة من ضمنها الكابل الرباعي وعصي وأشياء أخرى. وضع بعد تفتيشه في زنزانة منفردة وطُلب منه أن يضع يديه وراء ظهره ويواجه الحائط في كل مرة يأتون فيها إليه.

لم يستطع الشاهد تذكر تفاصيل التحقيق معه والذي حدث كثيراً وتكررت فيه الأسئلة، إلا مرة واحدة تحدث فيها معه المحقق بطريقة حضارية وكان يبدو مثقفاً وسأله عن عمل تلفزيوني كان سيقوم بتأليف السيناريو له وسيخرجه مخرج سوري يدعى ن.آ )وهو مخرج مقرَّب من بشار الأسد شخصياً( ولماذا رفض الشاهد الاستمرار في العمل؟ فأخبره بأنه غير مقتنع بالعمل. هذه الحجة لم تقنع المحقق الذي ثار غضبه فجأة وبدأ بضرب الشاهد وهو يقول له: “أنت بعت السلاح الجوي لاسرائيل.. أنت حاقد كبير وحخليك تتعفن هون!!”.

في هذه الفترة تعرَّض الشاهد للكثير من التعذيب، وفي إحدى جلسات التعذيب تسببوا بجرح في رأسه. بقي الأمر كذلك حتى تاريخ 11 أو 12 من شهر شباط/فبراير حين تم استدعائه للتحقيق مرة أخرى. في هذه المرة وبعد دخوله غرفة المحقق، سمعه ييوبخ عناصره لأنهم أحضروا الشاهد حافي القدمين في هذا البرد الشديد وطلب من أحدهم أن يعود للزنزانة ويحضر له جواربه، ثم طلب منهم نزع عصابة الوجه والقيود عن يدي الشاهد. صافح المحقق السيد العايد وعرَّفه عن نفسه بأنه العقيد أنور رسلان رئيس قسم التحقيق في فرع الأمن الداخلي -الخطيب-، بعدها قدّم له كأساً من الشاي وتحدث معه في مواضيع عادية كما وصفها الشاهد، ومن بين ما قاله له أنه مثقف وكان يحلم بأن يكون كاتباً لكن طرق الحياة أخذته بهذا الاتجاه. بعد ذلك اتصل رسلان بأحدهم وقال له “نحن جاهزون سيدي” ،ثم خرجا سوياً بعد أن قيدوا يدي الشاهد مرة أخرى واتجها إلى مكتب رئيس الفرع توفيق يونس والذي أكد الشاهد معرفته بشكله قبل ذلك بسبب رؤيته له في المظاهرات التي كانوا يخرجون بها. “لقد عرفته لأنني رأيته عدة مرات سابقاً في المظاهرات؛ كان يقف وينظر ماذا نفعل ويوجِّه عناصره، شكله غريب وضخم لذلك ليس من الممكن نسيانه” أضاف الشاهد.

رؤية الشاهد للمقدم النعسان سابقاً وبعد ذلك لتوفيق يونس في المظاهرات يعارض تماماً دفاع المتهم عن نفسه عندما نفى خروجه شخصياً لمراقبة المظاهرات بحجة أن من لديهم وظائف مكتبية لا يقومون بالمهام الميدانية بأنفسهم، ومن المعروف أن رئيس فرع الخطيب والمقدم النعسان، وكان نائب رئيس الفرع حينها، يقومان بوظائف إدارية مكتبية تماماً كما المتهم ومع ذلك مارسوا مهاماً ميدانية.

قال توفيق يونس للشاهد بأنهم أحضروه هنا ليحموه من مؤامرة من الإخوان المسلمين عليه الذين أرادوا قتله لتهييج الشارع السوري والطوائف ليصبح الوضع كما هو في تونس ومصر. عندها أشار السيد العايد إلى الجرح في رأسه وقال لهم “هكذا تحمون الناس؟؟” فقال أنور رسلان: “أنت بتعرف العناصر ومستواهم وكيف ما بيميزوا!” ثم قال له توفيق يونس: “نحن وقفناك 3 أيام فقط يعني ضمن حدود القانون!” فقال الشاهد” لأ أنا إلي 11 يوم هون!” قال يونس” معك ساعة لتعرف ولا كنت تشوف الشمس!! أنت ألك هون بس 3 أيام متل ما عم قول!”، وأضاف: “أنت حتطلع وحنرجع نتصل فيك لنقعد سوى ونفهم منك ليش عم يتظاهروا الناس”. بعد ذلك أمره بالخروج من مكتبه وطلب من رسلان البقاء. انتظر الشاهد خارجاً وبعد دقائق تبعه رسلان وقال لمدير مكتب توفيق يونس “شيل الكلبشات من ايده هو إفراج” ولكن مدير المكتب أصر أن يقوم رسلان بفك قيود الشاهد في مكتبه. وهم في طريقهم إلى مكتب رسلان قال الأخير للشاهد ” بيقلك العميد أنه أمر الإفراج عنك أجا مباشرة من مكتب الرئيس بشار! وما حدا بسوريا بيقدر يحكي معك شي هلأ!” فأشار الشاهد إلى القيود بيديه وقال لرسلان: “واضح!” فطلب منه رسلان السكوت. خرج الشاهد بالفعل وبدأ بالاعتناء بوالده المريض. في هذه الأثناء اتصل رسلان بالسيد العايد وطلب منه القدوم إليه، فأخبره السيد العايد بانشغاله بمرض والده. بعد مدة اتصل مجدداً واجتمع الاثنان وجلسا نصف ساعة وسأله عن الأوضاع في سوريا، فأجاب الشاهد بأنه لا يعرف شيء بسبب انشغاله بمرض والده كل الوقت. بعد ذلك غادر الشاهد سوريا متوجهاً إلى اسطنبول.

تواصلت إحداهن مع الشاهد نهاية عام 2012 وأخبرته بأن رسلان انشق ويريد التحدث معه، سمح لها بإعطاءه رقمه، وعندما تواصل رسلان معه قال له بأنه كان ينوي الانشقاق منذ زمن طويل ولأن الشاهد كان ضابطاً في سلاح الجو فقد توقع منه أن يصبح ضابطاً في الجيش الحر ويساعده على الانشقاق.

مضت الأيام بعد ذلك ما بين العامين 2012 و 2014 في محاولات الشاهد إقناع رسلان بالتحدث عما يجري في أقبية المخابرات من اعتقال وتعذيب، إلا أن رسلان رفض بحجة أنه لا يحب الإعلام والظهور ويُفضل العمل، ولكنه سيكتب كتاباً يوماً ما ويتحدث عن كل ما يعرفه وقال للشاهد بأنه سيحتاج مساعدته في تأليف هذا الكتاب عندما يبدأ به.

بداية عام 2014 أخبر المتهم رسلان الشاهد أنه ينوي مع منشقين آخرين العمل على جهاز أمن للمعارضة. بعد أسبوع اجتمع به ليخبره بأن المشروع فشل، وبأن من جاء بهم إلى اسطنبول كان ينوي على ما يبدو أخذ تمويل عليهم، وعندما لم يستطع ذهب دون عودة وتركهم في الفندق دون أن يخبرهم بأي شيء وأغلق هاتفه. عاد المتهم إلى عائلته في الأردن بعد أن قضى أياماً في منزل الشاهد لأنه لم يملك المال أو أي مكان آخر يذهب إليه في اسطنبول. آخر عهد الشاهد بالمتهم لقاءٌ بينهما في غازي عنتاب مطلع عام 2015 بعد أن حصل المتهم على حق اللجوء في ألمانيا، وهناك أخبر الشاهد بأنه خائف جداً من النظام السوري ولديه شكوك بأنه يراقبه وينوي اختطافه. طلب الشاهد منه إخبار السلطات الألمانية بهذا الأمر، فرد عليه بأنه أخبرهم ولكنهم لم يفعلوا شيئاً. سافر بعدها السيد العايد إلى فرنسا وبعد ذلك سمع بخبر اعتقال السلطات الألمانية للمتهم.

أجاب السيد العايد بعد ذلك عن أسئلة أطراف الدعوى ومن بينها سؤال الادعاء العام له عن دور المخابرات في سوريا قبل وبعد الثورة وتطور أساليب تعذيبهم، قال الشاهد: “أنا ولدت عام 75، ومن لما فتحت عيوني على الدنيا كانت المخابرات هي الحاكمة بسوريا، وأدواتهم هي التعذيب والإخفاء والأذى لكل شخص قريب من المعتقل عند النظام. يمكن قدروا يطوروا أساليب التجسس عندهم ولكن أساليب التعذيب ما تطورت. وأنا بعمر الخمس سنوات مر والدي بتجربة سيئة مع المخابرات السورية، لوقت ما توفى من سنة وهو بيذكر الأهوال الي شافها وعاشها”.

سأله المدعي العام عن العاملين مع النظام ودورهم في تمكين السلطة، فأجابه الشاهد بأن هناك نوعين منهم: الأول الأشخاص مطلقو الولاء وهم أصحاب الرتب العالية، والثاني أصحاب الكفاءات والمهارات وهم من يستقطبهم النظام ليقوموا بالجهد المطلوب لأي عمل ولكنهم ليسوا صُنَّاع القرار وإنما يجري توريطهم ليصبحوا جزءاً من النظام، وضرب مثالاً على ذلك رسلان الذي من المفترض أن يتميز قسمه، قسم التحقيق، بالمعرفة والذكاء، ولكنه يعمل تحت إدارة أشخاص ولاؤهم مطلق للنظام، فيتوجب عليه والعاملين معه تقديم خدمات لا يستطيعون هم تنفيذها بأنفسهم ولكنهم -أي الموالون- هم من يقومون بتوجيه هذه الخدمات بالاتجاه المناسب للنظام. وفي مثال آخر تطرق  إلى العلماء في مركز البحوث العلمية الذين قاموا بتطوير السلاح الكيماوي ولكن ليسوا هم من قرر أين وكيف يستخدم وإنما أصحاب الولاء. عندها سأله المدعي العام إن كان يرى فرقاً بين النوعين؟ فأجاب: “كلاهما خدم النظام بعمليات القتل”. ثم سأله إن كان يعتقد أن رسلان كان جاهلاً بما يحدث في فرع الخطيب أثناء وجوده كرئيس قسم التحقيق؟ فقال الشاهد: “لا أستطيع التأكيد ولكن بنسبة 99,99% كان يعلم ما يحدث”.

وعن معرفته بالخطيب تحديداً قال الشاهد: “هو فرع أمني معروف ضمن أوساط المثقفين لأنه يتولى مراقبة الوسط الثقافي تحديداً، وهو العقل المدبر للمخابرات المعروفة بأمن الدولة في سوريا”.

أكد الشاهد قدرته على سماع أصوات التعذيب في فرع الخطيب ولكن ما لا ينساه هو مشهد ترك في نفسه أثراً كبيراً. وعن سؤال المدعي العام عن ذلك قال الشاهد: ” بتاريخ 09.02.2011 في وقت متأخر من الليل، ركض شخص أمام زنزانتي وهنن أجو وراه، قدرت شوفهم من فتحة الباب وشفت شب بملابسه الداخلية فقط وايديه مقيدين لورا واثنين من العناصر عم يضربوه بالكابل الرباعي وهو عم يستغيث، بلحظة وقفوا ضرب بشكل مفاجئ وقالولوا “شيلها!” فجاوبهم “حاضر بس لا تضربوني” لما حاولت شوف شو قصدهم شفت أنه هو تبرز وبلش يلحس البراز بلسانه لأنه ايديه مكبلة لورا، لما خلص رجعوا ضربوه فتقيأ كلشي بتمه ورجعوا خلوه يحلس كلشي وبعدها رجعوه للزنزانة!”.

في نهاية الجلسة تقدم أحد محاميي الادعاء بالحق المدني، نيابةً عن موكله السيد فراس فياض، بطلب تقديم رسومات توثق ما حدث معه في المعتقل، رسمها رسَّام يعمل مع معالجه النفسي في جلساتهم التي استمرت لعامين كاملين وتشرح وضعيات التعذيب بشكل واضح.