أخبار المحاكماتمحكمة كوبلنتز

المرافعة الختامية للشاهد والمدعي حسّان محمود للرأي العام

محكمة “كوبلنز” جلجلة الحضارة في وجه الهمجية!

بعد التشاور مع محاميّ الألماني، لم أشأ الإدلاء بمرافعتي الختامية في محكمة “كوبلنز” باعتباري مدعياً بالحق المدني، طالما تبنى الادعاء العام الألماني مطالبي، وكي لا تكون مرافعتي سبباً لإطالة غير منتجة في إجراءات المحكمة، خاصة ً، أن كل ما وددت قوله قلته أمامها سابقاً، و رغبت أن أتوجه بهذه المرافعة إلى عموم السوريين بدل المحكمة، وأحاول شرح ما أعتقد أنه واجب الشرح.
    هذه المحكمة تأسيسية، تنصب منارتين: واحدة للتفكير وأخرى للسلوك. سابقة على المستويين السوري والعالمي، يبنى، ويقاس عليها، في محاكم غيرها، ودول غيرها، وجرائم غيرها، لهذا أضحت ملك الإنسانية لا السوريين فقط، وكأن آلامنا مارست واجباً رسولياً، حين غدت جراحاتنا شمساً ينثال نور بـِشارتها على البشرية بأسرها.

     ولأنها استندت إلى أعلى المعايير في بلد دستوره مؤسس على شرعة حقوق الإنسان، يعاديها طرفان: الطرف الأول، الفاشيون، كالنظام وسائر التنظيمات الإسلامية الفاشية، والطرف الثاني جهل البعض، الذي بسبب ما هو فيه، وما كان عليه، الذي نحت عقله الاستبداد، وشكل غياب الحياتين السياسية والديمقراطية أدوات تحليله، والعدسات التي يرى من خلالها، بات لا يميز بين كِــسر ِالزجاج  والألماس، وأسلم أمره لدجالين ما انفكوا يتربحون من دمائنا وما نكابد، واعدين بعصا موسى مرة أو بطوفان منتظر مرة ثانية؛ فصار موقف بعضنا من المحكمة كحال أولئك الذين يعيشون في مجاهل أدغال الأمازون إن رأوا هاتفاً محمولاً، بعضهم يخافه لأنه يخاله مسكوناً بأرواح وسحر غامض، وبعضهم يحسبه مجرد قطعة صلبة يرمي بها طرائده، والأكثر تدبراً منهم تراه يستعمل زجاجه مرآة ً. أما الخاصة من هؤلاء البدائيين فيقودهم غرورهم للتصدي لمهمة بيان مثالب صنع هذا الهاتف، وثغرات برنامج تشغيله الذي لا يعرفون منه غير اسمه: آندرويد مثلاً.

   أما المفطورون على الاختزال، المغرمون به، فحسب المحكمة أن تصدح بأنها إيجاز المقطع الطولي لطبقات الأرض، فهي مبتدأ ً وخبراً، جملة ً وتفصيلاً، معنىً ومبنىً، استندت في نشوئها وسياقها إلى أن الارتكابات التي نظرت بها ليست فردية ً بل جزءاً من كلٍّ، عنصراً من نسق ٍ، واحدة ً من ممارسات منهجية ومستمرة، لهذا، فإن الاختزال الصحيح لهذه المحكمة هو اختزالُ الخِزعة للورم.    

     و أذية الفاشيين بنوعيهم: النظام، وبعض معارضيه، فذات شقين:

    الأول، مبدأي، فالمحكمة انتصار لشرعة حقوق الإنسان، فلسفة ً وآلياتٍ ومؤسساتٍ، الشرعة التي كانت حلم السوريين في باكورة ثورتهم، والتي يهرب منها النظام بعنفه البربري، وتلتف عليها الحركات الإسلامية الفاشية باستبدالها بشريعة يخدعون أنفسهم وغيرهم حين يدعون أنها صالحة لكل زمان.

    والشق الثاني، فمجسد، عياني، ملموس، فعصابات القتل والسرقة والإتجار بالجنس والبشر والمخدرات وبيع سوريا والسوريين المؤتلفة فيما يسمى “النظام السوري” تلهث خلف أية إشارة تأتيها ولو من دولة منسية لا يعرفها على الخريطة حتى جيرانها، واليوم تصفع هذه العصاباتِ محكمة ألمانية، تلطمها في الحقل الذي كرست له روسيا والصين فيتوات متعددة. أما الصنف الآخر من الفاشيين، عصابات الدجل والارتزاق الإسلامية كالإخوان المسلمين وسائر اشتقاقاتهم، فقد أضافت المحكمة إلى فشلهم وخِــصاءهم الفكري والسياسي خِصاءً جديداً على المستوى القانوني والعملي، لأنهم، وهم التنظيم العتيق أولاً، الكبير ثانياً، ذو الامتدادات الإقليمية والدولية ثالثاً، هائلُ التمويل رابعاً، عريقُ الوجود في أوربا وألمانيا خامساً، عجزوا عن الإتيان بما أتى به أفرادٌ متحررون من هوس الوصول إلى السلطة، وتوظيف آلام الضحايا في بازارات خسيسة.

    هذه المحكمة فلاح وفوز، وانتصار للحياة بمواجهة الموت، والموت هنا ليس مقصوراً على القتل المادي للضحايا، هو أيضاً قتل قضيتهم، وركنها في زوايا الإهمال المعتمة. هي ظفر لاخضرار العدالة وغلبة لها على يباس الانتقام. هي اختلاج ما تبقى من لحم الضحية على أنياب ناهشيه، بكل صنوفهم، كذاك الذي أتى إلى أوروبا على حساب الضحايا وقضيتهم ثم نسيها ونسيهم، متجاهلاً أنينهم في الزنزانات، وحشرجاتهم في نزعهم الأخير، غارقاً بلذات الصغار، ومتع ٍ بخسة ٍ لا يراها ثمينة ً إلا المسخ الضئيل اللئيم.  

       محكمة “كوبلنز” تدعو الجميع للتفكير بالأسباب والنتائج العامة لاعتقال وإخفاء مصير شقيقي الطبيب حيان محمود على ضوء الحقائق التالية:

أولاً: هو ابن مدينة سلمية المعروفة بتنوعها الإثني والمذهبي (عرب، شراكس، طوائف مختلفة).
ثانياً: هو ابن عائلة متنوعة مذهبياً (والدي السلموني تزوج من والدتي من عامودا في أقصى الشمال السوري. أختي متزوجة من طبيب من “نهر الخوابي” في طرطوس، اثنين من أخوتي متزوجين من الساحل).

ثالثاً: أشقائي كلهم على الإطلاق أطباء، صهري طبيب، زوجة أخي طبيبة، في الأسرة ست أطباء.
رابعاً: حيان، المعتقل، هو الأول على كلية الطب في جامعة حلب.

    برأيكم، هل هذه البيئة، بهذه الخلفيات العلمية والمتنوعة ثقافياً يمكن أن تـنجب شخصاً طائفياً، أو إرهابياً؟!

إن التفسير لهذا التعامل مع شقيقي، الذي أكده كثيرون، حتى من مقربين من رئيس العصابة المركزية المدعو “بشار الأسد” والذي يرتكز على أن أسبابه كيدية مهنية، باعتبار حيان متفوقاً وألمعياً، وغيرة زميله الذي كاد له عند مدير مشفى المجتهد، وغيرة المدعو “بشار الأسد” شخصياً من حيان، بوصفه طبيباً توسل لقب الطبيب على الرغم من عتهه الذي أفصح عنه تعامله مع كل شيء، إن هذا التفسير لم يعد كافياً لتعليل هذا اللؤم الاستثنائي في التعاطي مع اعتقال حيان والإصرار على إخفاء مصيره.

ربما اتضح لكم الآن سر قيام ما يسمى “النظام السوري” باعتقال وإخفاء مصير حيان، في ذات الوقت الذي كان يطلق فيه سراح إسلاميين متشددين من سجونه! وهذا ليس إلا وجهاً من وجوه جريمته، التي منها أيضاً حرمان المجتمع من خدمات طبيب متفوق، واعد، وتوجيه إنذارات الرعب لمحيطي حيان الاجتماعي والمهني، فضلاً عن رسالة مبطنة مفادها أن هذه الطغمة ُ الوضيعة حاقدة ٌعلى التنوع الذي تجسد أسرتنا أحد تجلياته.

    ولئن كانت حقوق شقيقي، حيان، جبلاً؛ فهذه المحكمة استهلاله، خطوة على سفحه، إن لم أدرك ذروته فيما تبقى من حياتي سوف يدركها أبنائي، ومن بعدهم أحفادي، وأحفاد أحفادي، الذين لن ينسوا، فالتاريخ لم يعد يرويه الرواة فيزور، أو يكتبه الكتبة فيشحُب، إنه زمن التقنية الرقمية والصورة التي تحفظه شمساً لن يخمد أ ُوارها. والسطحي، العجول، المنغمس بالراهن هو الذي يظن أن أعظم آثار صور قيصر هي “قانون قيصر” فعواقبه في المدى الأبعد من اللحظة الحالية أمر وأعتى، حتى ليغدو إزاءها هذا القانون حجراً إزاء جبل.

    لن يهنأ أحد بأي شيء قبل تحقيق العدالة! من لا يقف في صف العدالة، يقف ضد نفسه، ضد مستقبل وحياة أبنائه، فالمظلومون لن يسكتوا، وهم إن هجعوا، فهجعة المتوثب، المتحين، المتربص. وما تحسب أنك تبنيه لنفسك، أو أبنائك، متملقاً الظلم، مفضلاً السهل على الصحيح، لن يكون إلا بناءً على رمل، سوف يقوضه ضياع العدل، واستمراء الجور، واستفحال الشحناء، واستحكام البغضاء.

    لهذا أحث الضحايا، وذويهم، على التعاون مع المؤسسات الأوربية وتلك التي أنشأها سوريون، في عشرات الملفات المنظورة أو قيد التحضير، لمجرمين موجودين الآن في أوربا، وأكرر دعوتي لهم للمبادرة، ومغادرة الكسل والخوف واليأس والسلبية، وأحضهم على التضامن مع بعضهم، والوقوف بوجه من سبب لهم الألم، ففي ذلك خلاصان، فردي وجمعي، وترياقا بـُــرْأين للجسم والنفس.

    هذه المحكمة انتفاضة الأيائل على الضواري، بيان معمد بالجهد والتعب، يقول لنا:

1ـ هذا هو الفرق بين اتساق الآدمية والجمال، وبين عشوائية البربرية والقبح. 

2 ـ هي المقابلة بين العلم والجهل، التفارق بين احترافية مختص ولهو دعيٍّ هاوٍ، التغاير بين الوفاء لأوجاع الضحايا والتنكر لها، بين الانشغال الفعال بها والانتماء اللفظي المتكلف لها.

3 ـ هي الفصل الناجز، بين إهدار المتاح، وبين قدرة الرصانة والحصافة على الاستفادة منه، لا بل تحويل المخاطر، والعثرات، إلى فرص ذات ثمر.

4 ـ هي هزيمة وهم الفاعلية، المترع بالخيلاء والتعالي، أمام الفعل الحقيقي، المكلل بتواضع العالم، وريبة الكمال، المطهر من أدران المآثر الكاذبة.

5 ـ الامتلاء إزاء الخواء، ترويض العقل لمجون الصدفة مقابل الركون لعماء ومزاجية القدر، وترقب الطير الأبابيل، والاعتقاد بخرافات المعجزات، والرهان على إرادة ماورائية، غيبية، تتدخل فجأة أولاً، وتنجز ما نستنكف عن إنجازه كسلاً ثانياً.

6 ـ هي البرهان الجديد، على خِصب العمل الهادئ، المنظم، الصبور، المثابر، التراكمي، وقحط الارتجال، والرغبة بصعود الدرج بقفزة واحدة، والنجاح بامتحان ما جراء دراسة ساعة واحدة، وحفر خندق بضربة معول واحدة. هي دليل سعة الأناة والروية، على ضيق التسرع والعجلة. هذه المحكمة كتلك الفكرة، التي ليس منوطاً بها تغيير فوري وكامل للمتجذر والمكرس، هي فكرة مجرد وجودها مكسبٌ له ما بعده، فكيف لو طُرحت وجُسدت كما حصل في “كوبلنز”؟  

7 ـ هي إعادة الاعتبار، والاعتذار للعقلانية المتفائلة، بعد أن داسها الانفعال، واستحضار اليأس، واجترار الإحباط، والاستدعاء التبريري للتلكؤ والاستهتار والإهمال والإغفال والتراخي والتفريط والإبطاء والتهاون.

لذلك كله:

صوت المحكمة هذا، لحنٌ آدميٌّ وسط جلبة الوحوش، وجلجلة الحضارة في وجه الهمجية.