أخبار المحاكماتمحكمة كوبلنتز

المرافعة الختامية للشاهد والمدعي وسيم المقداد أمام محكمة كوبلنتز

لونا وطفة

08.012.2021

ما يقدّر في الحياة ليس أننا عشناها، بل ما أحدثناه من فرق في حياة الآخرين، هذا الذي يحدد مغزى الحياة التي نعيشها” نيلسون مانديلا

حضرة القضاة المحترمين، الادعاء العام، حضرات المحامين، السيدات والسادة:

خمسمئة وخمسة وتسعون يوماً منذ الجلسة الأولى في 23 نيسان/أبريل 2020.

خمسمئة وخمسة وتسعون يوماً من الشهادات والمرافعات عن وقائع حصلت ومازالت تحصل للأسف في سجون ومعتقلات النظام السوري.

خمسمئة وخمسة وتسعون يوماً من التفاصيل المرعبة التي يرويها الناجون من ويلات وعذابات القمع والاستبداد تحت حكم بشار الأسد وأعوانه. الناجون الذين استطاعوا الفرار ويعيشون في أوروبا بعيداً عن التهديدات المباشرة لسطوة أجهزة القمع السورية. تفاصيل عشت بعضاُ منها شخصياُ وذكرتها في شهادتي أمام محكمتكم الموقرة في يوم 19 آب/أغسطس 2020.

واليوم وكل اليوم أسأل نفسي؛ يا تُرى كم هو كمّ التفاصيل التي لم ولن يتسنى لنا سماعها بسبب موت أصحابها تحت التعذيب المباشر أو بسبب سوء المعاملة وسوء الأوضاع الصحية في المعتقلات. كم هي التفاصيل التي لم نتمكن من الحصول عليها، لأن من عاشوها لا يستطيعون مشاركتنا إياها، فهم ما يزالون يسكنون في مناطق سيطرة سجّانيهم، الذين يتصرفون وكأنهم يملكون حق تقرير الحياة والموت.

حضرة القضاة المحترمين، الادعاء العام، حضرات المحامين، السيدات والسادة:

نحن هنا لنشهد محاكمة العقيد السابق بالمخابرات العامة السورية أنور رسلان، وبمجرد ذكر هذه الكلمات “عقيد بالمخابرات” أشعر بومضة من خوف دفين.

خوف تربينا عليه منذ نعومة أظفارنا بسبب الجرائم التي يقوم به ضباط أجهزة المخابرات في سوريا، ومنذ عقود.

خوف تولد لدينا كسوريين عموماً نتيجة فظائع سمعنا عنها، غالباً في جلسات خاصة مع مقربين منا، والكل يتكلم بصوت خافت؛ فالجدران لها آذان كما يُقال في سوريا، وجملة واحدة تصل إلى هؤلاء الضباط لا ترضيهم قد تودي بقائلها ومن يستمع إليه إلى المجهول/المعلوم.

التعذيب في سوريا وللأسف ليس ممارسة جديدة، التعذيب في سوريا هو أسلوب حكم قامت عليه الأنظمة المتعاقبة منذ الخمسينات وحتى يومنا هذا وحتى في هذه اللحظة التي أتحدث إليكم فيها.

لقد تعوّدت أنظمة القمع ومنها النظام السوري تحت حكم الرئيس السابق حافظ الأسد وابنه بشار الأسد بأن الرد على أي معارضة أو مطالب سياسية كانت أم اجتماعية أم اقتصادية هو بالتعذيب والعنف، لا حوار ولا نقاش.

في سوريا يُعتبَر النشاط السياسي اجتماعياً نوعاً من الانتحار بسبب المخاطر المحدقة التي تتربص بمن يحاول أن يجترح تغييراً، مهما كان نوع هذا التغيير؛ فالتغيير بعرف الدكتاتور خطير، والمطالبة به جريمة لا تُغتفر، والرد عليها لا يكون إلا بالحديد والنار.

هذا الرد يأتي على أيدي ضباط وعناصر مخابرات متمرسين بأدوات وأنواع التعذيب والعنف، يقومون به بدم بارد ولا يتورعون حتى عن القتل في سبيل الحفاظ على الدكتاتور وعلى مكانتهم في منظومته.

إن التهم الموجهة إلى المتهم أنور رسلان ما هي إلا الرأس المطل لجبل الجليد المعتم هذا.

مقتل 58 شخصاً وتعذيب أكثر من 4000 آخرين إلى جانب تهم بالاعتداء الجنسي وغيرها مما تقشعر له أبدان من يتابعون تفاصيل هذه المحكمة، هذا ما قام به المتهم وعلى مدى شهور وسنوات وبدم بارد لا يدلل إلا على أنه مجرم خطير مكانه خلف القضبان.

أتوجه لعدالتكم بالأخذ بعين الاعتبار أن أذى المجرم لم يقتصر على ضحاياه المباشرين وحسب، بل طال هذا الأذى عائلاتهم وأصدقاءهم أيضاً. نحن نتحدث عن 4000 عائلة عانت بشكل موثق من جرائم أنور رسلان. نحن نتحدث عن جيل، إن لم نقل أجيال، تعاني من الكبت والحرمان المضاعف نتيجة ما قام به أنور رسلان من خدمة ماكينة القمع القائمة في سوريا.

ما الجرم الأشد من أن يقوم أحد بتعذيبك أو قتلك أو تغييبك قسرياً عن أسرتك وحرمانك من أي تواصل معهم أو فعل كل هذا مجتمعاً وبشكل منهجي كعقوبة مباشرة لأنك طالبت بحقك؟

حضرة القضاة المحترمين، الادعاء العام، حضرات المحامين، السيدات والسادة:

أقف أمامكم اليوم مطالباً بالعدالة، لا طالب ثأر ولا انتقام، فسوريا التي أحلم بها والتي ناضلت وأناضل من أجلها يجب أن تقوم على أسس من العدل وحكم القانون لا على العنف والعنف المضاد والثأر وشريعة الغاب.

لا أعرف ما هو الحكم العادل لجرائم بحجم ما ارتكبه المتهم، ولكني أعلم يقيناً أنه سيكون الحكم القضائي الأول على ضابط مخابرات سوري كعقوبة لممارساته وهو على رأس عمله.

إن محاكمة أنور رسلان لن تنهي عذابات السوريين.

تلك العذابات المستمرة التي وُثّق جزء منها في التقرير السنوي العاشر عن الاختفاء القسري في سوريا الصادر عن الشبكة السورية لحقوق الإنسان بتاريخ 30 آب/أغسطس 2021؛ هناك 131469 شخصاً لا يزالون قيد الاعتقال/ الاحتجاز أو الاختفاء القسري في سوريا لدى النظام السوري منذ آذار/مارس 2011 حتى آب/أغسطس 2021.

131469 عائلة تترقب حكم محكمتكم الموقرة.

131469 معتقلاً حالياً يمكن لحكمكم أن يحميهم من لسعة سوط جلاد، بل وربما يمكن أن ينقذ ما تبقى من حياتهم.

إن الحكم ولأنه نتيجة محاكمة عادلة وإجراءات قانونية تسمح للمتهم فيها بتوكيل محامين للترافع باسمه والدفاع عنه كما وتتيح له الاتصال بالعالم خارج محبسه، محاكمة تراعي كرامة المتهم وتعامله كبريء حتى تثبت إدانته، وهو تماماً عكس كل ما قام به المتهم واعياً أثناء عمله لسنوات طويلة كضابط في المخابرات السورية منذ عام 1995 ولا سيما أنه خريج كلية الحقوق.

حضرة القضاة المحترمين، الادعاء العام، حضرات المحامين، السيدات والسادة:

إننا كسوريين نتطلع لليوم الذي تكون فيه بلادنا كباقي الدول المتقدمة، دولةٌ تراعي حقوقنا ولا تعتدي على مواطنيها.

نتطلع لليوم الذي لا نُعامل فيه بطرق لا تمت لحقوق الإنسان بصلة.

نتطلع لمستقبل لا يكون التعذيب وانتزاع الاعترافات بالإكراه مقبولاً لا سياسياً ولا اجتماعياً.

لقد سئمنا حالة الاستعصاء السوري حيث تُراق دماؤنا بلا حساب وعلى مدار العقود، وحيث يكون حديث السياسة لكثير من الدول هو عن إعادة العلاقات مع هذا النظام المجرم بتجاهل مقصود ومهين لعذابات وكفاح السوريين الساعين لمستقبل أفضل يضمّنا جميعاً.

إن حكمكم هو خطوة أولى على هذا الطريق الطويل.

حكمٌ يقول بصوت واضح لا لبس فيه أن المجرم سيحاسب ولو بعد حين.

حكم يراعي كرامة وحرية الإنسان كحقوق مصانة لا تُمسّ.

إن كان هذا الموضوع من المسلمات في ألمانيا وفي العديد من دول العالم فهو بالنسبة لي وبالنسبة للكثير من السوريين حلم نناضل من أجله. إن حكمكم هو إدانة مدوية الصوت للتعذيب كجرم بالمقام الأول.

التعذيب جريمة ضد الإنسانية أينما ارتكب، في سوريا أو في أي بقعة أخرى من هذا العالم وهو ما انتظرناه لعقود طويلة في بلادي.

نعم إن الطريق لطويل ولن ينتهي إلا بمثول المنظومة كاملة أمام المحاكم. وخاصة رأس النظام المتمثلببشار الأسد رئيس النظام السوري وكبار ضباط جيشه ومخابراته كما وكل المجرمين من أي طرف كانوا.

حضرة القضاة المحترمين، الادعاء العام، حضرات المحامين، السيدات والسادة:

أتوجه لكم بالشكر نيابة عني وعن كثير من السوريين إنْ في داخل البلاد تحت حكم النظام أو في مخيمات النزوح في داخل سوريا أو اللجوء في دول الجوار.

أتحدث بلسان الكثيرين ممن كانت لديهم الرغبة والشجاعة لأن يقفوا هنا أمامكم ويدلوا بشهاداتهم لكن لم تُتَح لهم هذه الفرصة لأنهم إما غرقوا في البحر أو تجمدوا في الغابات على الحدود في رحلة وصولهم لبلاد آمنة، رحلةٌ أقلّ ما يمكن أن يصفَ معاناتَهم فيها هو معاملتهم على هذه الحدود كمجرمين من قبل الجهات التي انتظروا مساعدتها باعتبارهم ضحايا.

إنها ليست قصة السوريين وحدهم.

القمع عدو الإنسانية، لأنه يقتل أجمل ما يجعلنا بشراً: الطموح.

والظلم عدو المجتمعات لأنه يفرّق حتى الأخوة، وكما قال الشاعر المتنبي:

ولم تزل قلةُ الإنصافِ قاطعةً ** بينَ الأنامِ وإنْ كانوا ذَوي رحِمِ

أنحني لعدالة محكمتكم وأتمنى لكم سداد الرأي وصواب المشورة، وشكراً”.