أخبار المحاكماتمحكمة كوبلنتز

المرافعة الختامية للشاهد والمدعي حسين غريرأمام المحكمة بكوبلنتز

لونا وطفة

08.12.2021

تقدَّم السيد حسين غرير ووقف في المنتصف ما بين الادعاء العام والدفاع، يواجه القضاة ويجاوره المترجم للغة الألمانية، وبدأ مرفعته التالية:

“السيدات والسادة في هيئة القضاة الموقرة،

منذ أن خرجت من سوريا لا أعلم إن كنت فرحاً بنجاتي، أم غاضباً من أجل عشرات الآلاف من الذين لم يحالفهم الحظ وما زالوا مخفيين قسرياً.

كان الحلم بسيطاً، ربما لا يفكر به معظم المواطنون الألمان الآن لأنه حقيقة معطاة: أن يكون لنا وطناً يحمينا ويحترم إنسانيتنا، ودولة تعامل جميع مواطنيها على قدم المساواة وفق القانون. ورغم بساطة الحلم وبداهته بمعايير القرن الواحد والعشرين، كنا نعلم أن ثمن المطالبة به سوف يكون جسيماً. لكننا لم نتوقع ولا في أسوأ كوابيسنا أن يكون النظام مستعداً للذهاب في جريمته إلى أبعد مما يمكن لأي إنسان طبيعي أن يتخيله.

عندما هرب رئيس تونس، ثم سقط رئيس مصر بتنا على يقين أن الحلم لم يكن يراودنا كأفراد أو جماعات صغيرة، بل إنه حلم ملايين البشر في منطقتنا. وآمنا أنه يمكن أن يتحقق في سوريا أيضاً بقوة الناس، رغم معرفتنا بتاريخ النظام منذ الثمانينات.

خرجنا إلى الشوارع نطالب باستعادة وطننا، لا نملك سوى صوتنا وإرادتنا. رد علينا عناصر وضباط الأمن بالرصاص الحي. مرت رصاصتان بقربي، إحداهما كادت أن تصيب رأسي. حالفني الحظ مرة أخرى وإلا لما كنت بينكم الآن، لكن الحظ لم يحالف مئات الآلاف الآخرين.

لم يردعنا الرصاص الحي، فقرر النظام مواجهتنا بالمدرعات والدبابات وفرض الحصار على المدن والبلدات ليطبق سياسة “الجوع أو الركوع”. لم نصدق الفيديوهات التي كانت تنتشر عن قصف المناطق السكنية بكل أنواع الأسلحة. أذكر أحد تلك الفيديوهات: كان المصور يوثق قصف الدبابة لأحد الأحياء في مدينة تل كلخ. يبدو أن الجنود انتبهوا له، فتوجه مدفع الدبابة إليه، تسمر مكانه ولم يعد يدر ما يفعل، صرخ أن الدبابة تريد قصفه. وهذا ما حدث. سقط الشاب ونجا الهاتف ليصلنا هذا المقطع بعد عدة أيام.

لن أسرد التفاصيل عن الجرائم التي ارتكبها النظام وأتباعه من قصف السكان المدنيين إلى تدمير سوريا، فقد تحدثت عنها النيابة العامة في أكثر من مناسبة بطريقة أذهلتني في مدى معرفتهم لتفاصيل المأساة السورية. كما أن الصور والفيديوهات المنتشرة في كل مكان تخبرنا بما تعجز الكلمات عنه. لكن أريد أن أتحدث عما لا تنقله الصور عادة، عن تجربة الاعتقال والاخفاء القسري.

من المخيف مواجهة الرصاص الحي عندما يكون المرء أعزلاً، ومن المخيف أكثر التعرض إلى القصف بكل أنواع الأسلحة بما فيها الطائرات، لكني لا أجد ما يمكن أن يصف الرعب الذي يمكن أن ينتاب الإنسان من احتمال الاعتقال.

في الأشهر الأولى من الثورة شنت قوة مؤلفة من مئات عناصر وضباط الأمن مدينة حرستا التي كنت أعيش فيها. كانت تقع مدينة حرستا ضمن نطاق مسؤولية فرع الخطيب. كنت في زيارة لمنزل أهلي الذي يبعد عن بيتي مسافة 200 متر، أما زوجتي وطفلي الاثنين كانوا في البيت. شعرنا بحركة غريبة في الخارج، فتحنا الباب لنرى ما يحدث فصرخ العناصر علينا. علمنا أنها عملية مداهمة. حاولت فوراً الاتصال بزوجتي لكن كل الاتصالات كانت مقطوعة عن المدينة حينها. قررت الخروج لأطمئن على زوجتي والطفلين، لكن أمي منعتني من ذلك، ولها كل الحق، فربما إن خرجت لن أعود كما لم يعد بعض من اعتقل يومها. لا أعلم كم استغرق الأمر، ليس مجازاً، بل حقيقة لا أعلم، لكن شعرت أنه استغرق سنيناً طويلة. كنت غارقاً في الخوف من أن أكون مطلوباً فيدخلوا بيتي فلا يجدوني فيفعلوا شيئاً لزوجتي وطفلي. أو أن يدخلوا بيت أهلي فيأخذوني معهم فأختفي ما وراء الشمس ولا يعرف حتى الذباب الأزرق مكاني.

السيدات والسادة القضاة، أحترم قراركم بعدم ضم جريمة الإخفاء القسري للجرائم التي يحاكم عليها المتهم، وربما لا أملك الأدلة التي يقبل بها القانون لإثبات أن الإخفاء القسري عملية ممنهجة يتبعها النظام وينفذها بوعي كامل لتبعاتها كل ضباطه وعناصره بهدف إرهاب المجتمع السوري. لكني سوف أخبركم عن هذه الجريمة من واقع التجربة المعاشة، لأن ما نقوله هنا يشكل وثائق تاريخية تهم السوريين وتهم كل المدافعين عن حقوق الإنسان.

عندما تتعارض مصالح عنصر أمن أو ضابط أمن مع أي مواطن في سوريا، فإن أول ما يمكن أن نسمعه من هذا العنصر أو الضباط هو العبارة التالية: سوف أخفيك وراء الشمس أو لن يعرف لك الذباب الأزرق مكاناً. عندها يضطر الطرف الآخر للتنازل عن حقه لأنه يعرف تماماً معنى ذلك، ويعرف تماماً أن تنفيذ التهديد بسهولة شرب الماء.

الغاية من التهديد هي ترهيب الطرف الآخر، وهي وصفة مجربة لدى النظام وعناصره. في الحقيقة يجب اعتبار الإخفاء القسري ليس فقط جريمة ضد الإنسانية، بل أيضاً بوصفها أحد أشكال الأعمال الإرهابية، لأنها تهدف إلى إرهاب المجتمع وإرغامه على الخضوع للسلطة. وأصغر عنصر رتبة في الأمن يعي أثر هذا الفعل على المجتمع، ولذلك تحديداً يمارسه.

أن يختفي المرء وراء الشمس يعني أن يغيب في الظلام، أن يتم نفيه من الحياة دون أن يموت فعلياً. يصبح الإنسان مثل قطة شرودنغر، لا يعلم الذين في الخارج إن كانت ميتة أم على قيد الحياة. يصبح الاحتمالان متساويين تماماً حتى بالنسبة للمعتقل نفسه، وبالنسبة للسجان والضابط. لا يعلم الضابط أو السجان نفسه إن كان سوف يقتل أحدهم في اللحظة التالية، قد يغضب فجأة من شيء ما قام به ابنه فيقتل معتقلاً صادف وجوده في تلك اللحظة أمامه. نعم الأمر بهذه البساطة بالنسبة لهم! والأهم أن المعتقل نفسه لا يعلم مصيره في اللحظة القادمة. ربما لا أحد يعلم ذلك بطبيعة الحال، لكن الفرق جوهري بين الحالتين: في حالة المعتقل إنه لا يموت بشكل طبيعي، بل يقتل على يد أحدهم وعلى الأرجح بأبشع الطرق. وفي حالة المعتقل ليس هناك أي إمكانية لمقاومة القدر.

أن يختفي الإنسان وراء الشمس في الظلام يعني أن يفقد إحساسه بالزمن. أدعوكم لتخصيص خمس دقائق من وقتهم لتتخيلوا أنكم في مكان مغلق ومظلم لا يعبر إليه الضوء أبداً، حتى الذباب لا يجد منفذاً للدخول إليه، ولا يتاح لكم فيه معرفة الوقت. بعد بضعة أيام لن تعلموا إن كان الوقت نهاراً أم ليلاً، وكأنهما غير موجودين بالنسبة لكم على الإطلاق. لن يعود للنور والظلام أي معنى، سوف تنسون شكل ورقة الشجر ورائحة الوردة. وما هي الحياة غير تلك التفاصيل الصغيرة؟

لقد رمى آينشتان كل الأدلة العلمية عرض الحائط عندما قال: أريد أن أعرف أن القمر موجود سواء كنت أراه أم لا! كاد أن يصيبه الجنون من الفكرة. في المعتقل يصيبنا الجنون لأننا لم نعد متيقنين من شيء. بكيت مرة لأنني سمعت صوت الأذان رغم أني لاديني! بكيت لأني سمعت صوتاً غير صوت صراخ السجانين، بكيت لأني تذكرت للحظة أن الحياة هي أكثر من هذا الظلام الذي أعيش فيه. بكيت في تلك اللحظة رغم أني لم أبك أثناء جلسات التعذيب اليومي حينها.

هل تعلمون لماذا هربت من سوريا؟ ليس خوفاً من الموت برصاصة أو تحت القصف، بل تحديداً خوفاً من الاختفاء مرة أخرى. نعم لقد نجح ضباط النظام الذين كان المتهم واحداً منهم بترهيبي وإرغامي على الهرب. الاخفاء القسري أحد أهم عناصر سياسة النظام المنهجية لإسكاتنا أو التخلص منا، وهذه المنهجية يعيها جيداً ويطبقها كل عضو في هذا النظام والمتهم عضو فعال وذو رتبة في هذا النظام.

هربت لأنني لا أريد لعائلتي أن تعيش الكابوس مرة ثالثة، كابوس الأسئلة التي لا تكف عن العبث بحياتهم: هل قتلوه؟ هل ما زال على قيد الحياة؟ هل هو معلق في هذه اللحظة؟ هل كسروا ظهره؟ هل يعذبوه الآن بينما نحن نأكل؟ هل وهل وهل؟ رغم مرارة موت الأحباء فإن أهالي المعتقلين يجدون خاتمة ما، وإن كانت مؤلمة، عندما يتم تأكيد موت أحبتهم. الأمل البعيد مرهق وشديد التعذيب.

عندما اعتقلني فرع الخطيب كنت خارجاً في موعد عمل. بعد إطلاق سراحي كان ابني البالغ من العمر حينها ثلاث سنوات ونصف يصرخ باكياً كلما خرجت من المنزل. كان يقول لي لا تذهب، إن خرجت لن تعود. لم أجرؤ أبداً على وعده بالعودة مساءً، لأنني كنت سوف أخلف وعدي له، فقد حدث أن خرجت مرة ثانية ولم أعد إلا بعد أربع سنوات.

ربما ما يؤلم أكثر من القتل والتعذيب هو حماس هؤلاء العناصر والضباط لإيقاع أشد الأذى فينا. أنا مقتنع أنهم لم يكونوا ينفذون الأوامر فحسب، بل كانوا ينتقمون منا لأننا حاولنا نزع السلطة المطلقة من بين أيديهم، تلك السلطة الممنوحة لهم بوصفهم جزءً من ماكينة النظام للسيطرة، تلك السلطة الخارجة عن أي قانون وأي أخلاق والتي يستطيعون استخدامها كيفما ومتى شاؤوا لتحقيق مصالحهم.

كنت في العاشرة من عمري عندما بدأت أعي خوف الناس من المخابرات السورية وعندما بدأت أعي التحذيرات التي كنت أتلقاها من محيطي كي لا أتكلم بما لا يرضي المخابرات. كان الآباء يحذرون أطفالهم أن أي كلمة يمكن أن تؤدي إلى اختفاء العائلة بأكملها.

في العاشرة من عمري بدأت أشعر بالاشمئزاز من كل الذين يعملون في المخابرات ومن كل فرد من عائلتهم من الذين يفتخرون بوجوده في موقع قوة بحيث يمكنه إرهاب من حوله.

اعتقل خالي في الثمانينات وتعرض للتعذيب ست سنوات لانتسابه للحزب الشيوعي، واختفى ثلاثة من عائلة صديقي، والده وعمه وأخوه، وإلى الآن لا يعرفون مصيرهم، فقط لأنه اشتبه بمعارضتهم للنظام.

لا يوجد سوري واحد أبداً، بالغاً كان أم طفلاً لا يعلم ما هي الجرائم التي كانت ومازالت ترتكبها المخابرات السورية. وكل من تطوع للعمل معهم فهو اختار بوعي كامل أن يكون أداة لارتكاب الجرائم ضد الإنسانية.

والحال هذه، فإنه لا يمكن لأي عضو في المخابرات بغض النظر عن موقعه أن يقول أنه كان يتبع الأوامر، أو أنه كان مجبراً، أو أن دوره كان هامشياً. كل عضو هو عضو فعال في هذه المنظومة ومسؤول عن أفعاله. ومن البديهي أنه كلما ارتفع منصبه كلما زاد عدد وفظاعة الجرائم المسؤول عنها. بل والأهم من ذلك أنه كلما ارتفع منصبه كان أكثر وعياً عند انضمامه للأجهزة الأمنية أنه مقدم على ارتكاب الجرائم.

كان من الممكن أن أسامح المتهم عن مسؤوليته تجاه الجريمة التي ارتكبت بحقي، لكنه في بيانه في بداية المحاكمة لم يبد أي ندم أو شعور بالمسؤولية عن الجرائم التي قام بارتكابها أو المساهمة بارتكابها، كما أنه ما زال يدعي أنه لم يكن هناك تعذيب ممنهج يرتكب في فرع الخطيب. كان من الممكن أن أسامح لأنني لا أبحث عن انتقام شخصي، بل أسعى لعدالة بمعناها الواسع بحيث لا يكون هناك مكان في المستقبل لمرتكبي الجرائم في سوريا ولا في أي مكان في العالم.

لذلك ومن أجل شيء من العدالة: أطالب بمحاسبة الذين ارتكبوا هذه الجرائم في سوريا، والمتهم واحداً منهم. ومهما كانت مدة سجنه، سوف يكون معه ساعة، وسوف يرى الشمس ويعرف متى تشرق ومتى تغيب، وسوف يتلقى الرعاية الطبية عندما يحتاجها، وسوف يزوره أهل ويعرفون أخباره ويعرف أخبارهم كل الوقت.

لقد نجوت، لكن الحظ لم يحالف مصطفى قرمان وأيهم غزول وعلي مصطفى وخليل معتوق وعلي الشهابي ورانيا عباسي وزوجها وأطفالها الستة، ونبيل الشربجي ويحيى الشربجي وباسل خرطبيل وإسلام الدباس ومحمد عرب وعشرات الآلاف الذين يستحقون أن نذكر أسماءهم واحداً واحدة، وأن نحكي قصصهم وآلام أحبائهم هنا”.

بعد نصف ساعة من بداية الجلسة، انتهى السيد غرير من مرافعته الأخيرة وطلب بعدها محاميه السيد باتريك كروكر استراحة لمدة عشر دقائق، قبل أن تبدأ السيدة نوران الغميان بمرافعتها بعد السيد غرير.