أخبار المحاكماتمحكمة كوبلنتز

المرافعة الختامية للمدعي العام في محاكمة المتهم أنور رسلان في كوبلنتز

 لونا وطفة

“من يتعرض للتعذيب، لا يمكن أن يشعر بأن هذا العالم قد يكون موطناً له بعد ذلك”

بهذه المقولة للكاتب النمساوي اليهودي جان أميري، الذي اضطُهِد من قبل النازيين ومات منتحراً عام 1978، افتتح المدعي العام السيد كلينغه مرافعته الأخيرة في محاكمة المتهم أنور رسلان، مؤكداً من خلال هذا الاقتباس أن كل الضحايا الذين أتوا إلى هذه المحاكمة كمدعين وشهود، وضَّحوا في شهادتهم التأثير المريع لتجربة الاعتقال ومدى قساوتها، وكيف أن حياتهم لم تعد كما كانت ولازال بعضهم يعاني من آثار الصدمة حتى هذا اليوم، ولذلك، وضَّح السيد كلينغه، اضطُّروا لإخفاء هوية البعض منهم، كما أن ذلك أدى لردود أفعال سلبية كامتناع البعض منهم عن الحضور إلى المحكمة.

أكّد السيد كلينغه أن هؤلاء الضحايا يجب أن يشعروا أن هناك من يقف إلى جانبهم وبأنهم ليسوا وحدهم على الإطلاق، ويأمل أن يشعر، البعض منهم على الأقل، بأن لهم موطناً في هذا العالم من جديد.

هذه المحاكمات، كما رآها المدعي، ضرورة لا بد منها من أجل الأمن والسلم الدوليين، لأن الجرائم المرتكبة تهدد كليهما في كل العالم وليس فقط في سوريا، وأشار أن الوعي بأهمية هذه المحاكمات حتى الآن لايزال غير كاف. من ناحية أخرى يدرك، كما قال، أن مثل هذه الشهادات قد تعيد حالة الصدمة لضحايا الاعتقال والتعذيب، لذا يأمل أن يتم وضع العدالة والإنسانية في مسارهما القانوني الصحيح، وأن تستطيع الدولة الألمانية تأمين الأمان اللازم للضحايا.

جدير بالذكر، أن هذه المرافعة استمرت قرابة الست ساعات، وتناوب على قرائتها السيد كلينغه والسيدة بولز مع عدة استراحات تخللتها.

بعد هذه المقدمة المؤثرة من جهة الادعاء العام، تطرَّق السيد كلينغه للمتهم أنور رسلان شخصياً، وقال بأن مسؤوليته الجنائية بارتكاب هذه الجرائم لاتتعلق برؤية أحدهم له يقوم بتعذيب معتقل شخصياً، وإنما تتعلق بمعرفتهم بعمل الأفرع الأمنية وسلسلة القيادات وبطبيعة عمله السابق كرئيس لقسم التحقيق في فرع الخطيب، حيث ارتكبت هذه الجرائم التي يُعتبر متواطئاً وشريكاً فيها حسب رأيهم بحكم منصبه ومسؤوليته.

لم يغفل السيد كلينغه بعد ذلك عن البدء بسرد جرائم نظام الأسد منذ بداية الثورة السورية، وتحدث عن إنشاء خلية الأزمة واستخدام الجيش أيضاً لقمع المظاهرات بطريقة وحشية وسريعة. كما أكد منهجية الاعتقال والتعذيب والقتل تحت التعذيب، وهو ما وضَّحته تماماً شهادات الشهود في هذه المحاكمة كما قال، مؤكداً مرة أخرى أن الكثير قتلوا أثناء ذلك وكثيرٌ منهم لايزالون في السجون حتى يومنا هذا، وبأن ذلك يحصل يومياً منذ ذلك الحين.

تحدث بعدها عن مدينة دمشق ومحيطها الذي توزعت مسؤوليتها الأمنية بين عدة أفرع وهي: الأمن العسكري، السياسي، الجوية، وأمن الدولة. حاولت هذه الأفرع فرض سيطرة أمنية شديدة وقامت بحملات اعتقالات واسعة، ونتيجة للاعتقال والتعذيب والقتل تحت التعذيب، وجد في محيط دمشق مقابر جماعية لدفن جثث المعتقلين. الخطيب هو أحد أفرع أمن الدولة، وفيه سجن يتسع عادة لمئتي معتقل، إلا أنهم تجاوزا الألف بعد أن أخذ الاعتقال والتعذيب بُعداً جديدا إبَّان بداية الثورة. قسم الأربعين دعم فرع الخطيب بعملية الاعتقالات، وهو قسم ترأسه حافظ مخلوف. كان القسم مسؤولاً عن التحكم بالحواجز العسكرية والاعتقالات ومن ثم أخذ المعتقلين إلى مبنى قسم الأربعين، وبعد ذلك مباشرة إلى فرع الخطيب.

بعناصر أمن كثيرة، كما قال السيد كلينغه، كان يتم انتهاك حقوق المدنيين وتعذيبهم واعتقالهم، تقييد أيديهم و تعصيب أعينهم وضربهم بعشوائية وعنف. لم تكن الغاية من ذلك الحصول على المعلومات كما قال، وإنما فقط إخضاع المدنيين وفرض السيطرة عليهم وقمعهم بالقوة، لدرجة أن استجواباً معهم لم يخلُ من التعذيب. كل هؤلاء المعتقلين لم يعرفوا مصيرهم، وكان العناصر حريصون كل الوقت ألَّا يحصل المعتقلون على الراحة أو الهدوء. تطرق بالطبع لحفلة الترحيب في الأفرع وشرحها بناءً على وصف الشهود لها مؤكداً أن التعذيب في هذه المرحلة المبكرة من الاعتقال “مرحلة حفلة الترحيب” تسبب أيضاً بقتل بعض المعتقلين الذين لم يستطيعوا النجاة منها.

“في فترة الاعتقال يستمر العنف دائماً حتى دون معرفة سبب كل ذلك”

تطرَّق السيد كلينغه لكل وسائل التعذيب التي تحدث عنها الشهود والمدعون، مروراً بالظروف اللاصحية واللاإنسانية التي وضعوا فيها في الاحتجاز، وحتى الأعداد الهائلة التي تم تجميعها في زنازين صغيرة بحيث لم يتمكن أغلبهم معظم الوقت من الاستلقاء أو الجلوس، عدم معرفتهم بالوقت، الهواء الفاسد الذي تنفسوه كل الوقت وانعدام أجهزة تكييف الهواء، الشمس الغائبة من مساحة السجن وعدم معرفة الليل من النهار.

كل ذلك أدى، دون حتى ذكر التعذيب، إلى انتشار الأمراض والأوبئة وخاصة الجلدية منها، إلا أن الأسوأ من ذلك كله بالنسبة للبعض كما قال، هو سماع أصوات الآخرين يُعذَّبون طيلة الوقت.

انتقل بعدها إلى المتهم رسلان ليقول بأنه كان حاضراً هناك من شهر نيسان/أبريل عام 2011 إلى شهر أيلول/سبتمبر 2012، وخلال هذه المدة تم تعذيب ما لا يقل عن 4000 شخص في فرع الخطيب، لقد استطاع المتهم سماع أصوات التعذيب، كان ذلك واضحاً، كما أكد المدعي العام.

بدأت السيدة بولز، المدعية العامة، بسرد أسماء وقصص أربعة وعشرين من المعتقلين، الذين، رغم احتمالية تعرضهم مرة أخرى للصدمة بسبب روايتهم لما حدث، إلا أنهم جاؤوا إلى هذه المحاكمة كمدعين وشهود، ولولا حضورهم لم يكن لهذه المحاكمة أن تصبح واقعاً.

ابتدأت بالمدعي فراس فياض، والذي كان لشهادته أثراً واضحاً في مرافعة الادعاء العام من حيث الاستشهاد بها في كل قسم من أقسم التعذيب، وبدأت بعموم ما تعرض له من تعذيب وشبح وتعذيب جنسي. انتقلت بعده إلى المدعي وسيم مقداد؛ تعذيبهم له ورؤيته لآخرين يُعذَّبون، المدعي حسين حمدون والشروط الأمنية التي خضع لها وعدد المعتقلين في زنزانته، المدعية رويدة كنعان واعتقالها لأنها جمعت أدوية للمصابين من المتظاهرين وتعرضها لسوء المعاملة الجنسية. المدعي محمد الشعار وتعذيبهم له -ضمن وسائل أخرى ذكرتها- من خلال حرمانه من النوم والجلوس لثلاث أيام متواصلة، المدعي مُسَّلم القوتلي وتعذيبهم له بالكهرباء بعد حديث مع المتهم رسلان داخل الفرع ومعرفة الشاهد أنه في فرع الخطيب، غاية التعذيب أن ينفي الشاهد معرفته بالمكان الذي اعتقل فيه. المدعية نوران الغميان واعتقالها ووالدتها في فرع الخطيب وتعذيبهم لها بوسائل عدَّة من بينها زجّها في منفردة ورمي سائل حار على جسدها والتحرش الجنسي والشبح. المدعي أ.ح وتعذيبهم له لأخذ أسماء آخرين، المدعي فراس الشاطر وتعرضه للتعذيب ومحاولة الاعتداء الجنسي عليه والترهيب النفسي.

ذكرت السيدة بولز بعد ذلك أسماء شهود ومدعين آخرين، مؤكدة في كل الشهادات التي تطرقت لها على التعذيب التي تم ممارسته عليهم ووسائله، وعن الأسباب الواهية لاعتقالهم ووضعهم في ظروف لاإنسانية، وختاماً كيف أثر عليهم ذلك وكيف أن جميعهم دون استثناء لازالوا يعانون من آثار نفسية ومعظمهم خضع أو لازال يخضع للعلاج النفسي جرَّاء ذلك.

عندما انتهت السيدة بولز من سرد قصص الناجيات والناجين، بدأت بالسيرة الذاتية للمتهم مؤكدة خلال ذلك أن التعذيب كان أسلوباً ممنهجاً لدى النظام السوري منذ الثمانينيات وخاصة بعد مجزرة حماه عام 1982.  تحدثت أيضاً عن دراسة المتهم ومزاولته لعمله مع المخابرات، وبأنه مع بداية عام 2011 كان موجوداً كرئيس لقسم التحقيق في فرع الخطيب حيث عمل تحت إمرته ما لا يقل عن ثلاثين موظفاً، وفي ذات الوقت كانت الزنازين هناك وأثناء وجوده حدثت كل هذه الجرائم من تعذيب لانتهاك جنسي لإساءة معاملة بشكل ممنهج وأحياناً حتى الموت! المتهم، كما رآه الادعاء العام، كان حاضراً وشاهداً على كل ذلك، وبالتالي مُدركاً لما حدث بل وعلم بأن بعض المعتقلين قتلوا تحت التعذيب، لقد كان أحد رجالات النظام، وبحكم منصبه كان في المنتصف، ما بين إصدار الأوامر وتنفيذها، وبالتالي كان بموقع قوة.

وأما بالنسبة لمزاعم المتهم رسلان بأنه كان مجمداً في موقعه ولم يتح له اتخاذ القرارات، كما ورد في بيان دفاعه، رأى السيد كلينغه أن هذه الحجة يسهل دحضها، لأن شهود كُثر ومن بينهم المدان إياد الغريب في اعترافاته، أوضحوا جميعاً أن المتهم كان ذا نفوذ وسلطة، وبالفعل قام بعمله على أكمل وجه، ليس هذا وحسب، بل شارك المتهم باجتماعات على مستوى رفيع، كاجتماعه مثلاً مرتين بعلي مملوك كما أفاد الشهود أثناء إطلاق سراحهم، وأيضاً آخر اجتماع حضره كممثل للمخابرات العامة كما أفاد أحد شهود الدفاع الذي قال في شهادته أنه أمَّن للمتهم عملية انشقاقه بعد اجتماع حدث بينهما في وزارة الداخلية في شهر تشرين الثاني/نوفمبر لعام 2012 كان المتهم حاضراً فيه بصفته مندوباً وممثلاً للمخابرات العامة، وبالتالي لا يمكن لمن تم تجميده في عمله أن يكون بمثل هذا المنصب قبيل انشقاقه بشهر فقط. علاوة على ذلك فإن هذه الحجة لم يستخدمها المتهم قبل ذلك، لا بشهادات الشهود الذين تحدثوا عن انشقاقه بل وساعدوه به، ولا من المتهم نفسه عندما تقدم بطلب اللجوء إلى ألمانيا، ولا حتى عندما ذهب إلى الشرطة الألمانية ليخبرهم بخوفه من الملاحقة من قبل النظام قبل اعتقال السلطات الألمانية له، بل كان أول استخدام لها من قبل المتهم في بيان دفاعه في المحكمة.

وبالحديث عن بيان دفاع المتهم، قال السيد كلينغه أن المتهم قال فيه واصفاً الوضع في سوريا بعد 15.03.2011: “بعد انطلاق المظاهرات ضد النظام في سورية في 15/03/2011 تغير كل شيء، حيث ظهرت الفوضى في البلاد” عقَّب السيد كلينغه على ذلك أنه لا يمكن أن يصف منشق الوضع بالفوضوي، هي لم تكن فوضى وإنما ما بدأه النظام بقمع المظاهرات والمتظاهرين، بيد أن المتهم لم يصفها بهذه الطريقة “لايمكن لشخص بريء أن يصفها هكذا” أكد السيد كلينغه. ليس فقط قمع المظاهرات، وإنما الاعتقال بدأ حينها أيضاً وما تبعه من تعذيب وسوء معاملة وسوء عناية صحية وظروف لا إنسانية، أثناء كل ذلك كان المتهم رئيساً لقسم التحقيق، كرر السيد كلينغه، وسمع بنفسه صرخات المعذبين، إلا أنه قال أن مساعد رئيس الفرع المقدم عبد المنعم النعسان هو من كان يعذب المعتقلين، ونفى أن يكون هناك شبح في فرع الخطيب. إياد الغريب في شهادته تحدث عن جثث تم نقلها من فرع الخطيب ولانتفاء المصلحة في شهادته وعدم وجود ما يعارضها وجد المدعي العام أنها صحيحة.

“إما أن تكون قادراً أو عاجزاً، لا يوجد خيارٌ ثالث!”

أشار السيد كلينغه إلى التعارض الواضح في بيان دفاع المتهم، إذ قال فيه أنه كان قادراً على مساعدة الكثير من المعتقلين، ولكن من جهة ثانية قال أنه كان عاجزاً ومكفوف اليد ومجمداً في موقعه وغير قادر على اتخاذ القرارات، وهاذا تصريحان يعارضان بعضهما البعض في دفاعه، “إما أن تكون قادراً أو عاجزاً، لا يوجد خيارٌ ثالث!”. أكد السيد كلينغه.

لتأكيد هذه النقطة في مرافعته، استشهد السيد كلينغه عدة مرات بما ورد في شهادة إياد الغريب والتي كرر مرة أخرى بأنه لا يمكن تكذيبها لأنه لايوجد سبب يدعو للظن أن المتهم لم يكن بتلك المسؤولية وخاصة أن الغريب كان يعمل بين فرع الخطيب وقسم الأربعين. كما أن شهادة الشاهد محمد الشعار تُثبت أن عبد المنعم النعسان كان برتبة أقل من المتهم، لذا ليس من الممكن أن يكون هو من يتولى التعذيب من تلقاء نفسه دون أوامر من المتهم.

تطرق بعدها السيد كلينغه إلى شهادة الشاهد حسان محمود وما حدث مع عائلته عندما حاولوا إيجاد شقيقه المعتقل الطبيب حيَّان محمود، ولأجل ذلك قابلوا المتهم وتم إرسالهم بعدها إلى مشفى حرستا العسكري ليقال لهم بعد عرض عدة جثث عليهم وعدم قدرتهم على إيجاد جثة شقيقهم بينها: “انتقوا أي جثة وارحلوا من هنا!”.

وأيضاً ما ورد في شهادة الصحفي كريستوف رويتر الذي قال أن المتهم أخبره بلقاء له مابين العام 2011 و2012 مع علي مملوك وعن محاولته في هذا اللقاء التوسط لصالح معتقلين، وأكد مرة أخرى السيد كلينغه: ” مثل هذا اللقاء لا يتم لشخص عادي!”. و جاء كذلك شاهد دفاع في تاريخ 06/10/2021 إلى المحكمة وكان قد اعتقل في الميادين في الرقة واستطاع المتهم التوسط لإخراجه. كل هذا يعني أن المتهم رسلان في مكان عمله في دمشق والمناطق خارج دمشق، كان له سلطة التصرف!.

لم يفت المدعي العام أن يذكر شهادات أطباء الهلال الأحمر الذين جاؤوا إلى المحكمة كشهود وأيضاً أكدوا وجود جثث نُقلت إلى مشفى الهلال الأحمر من فرع الخطيب، كما أكدوا وضع المعتقلين الصحي السيء وعلامات التعذيب والتجويع والانهيار البادية عليهم من جهة، و الأوساخ وعدم الاستحمام أو وجود أي عناية شخصية مسموح بها هنا ما أدى لتزايد الأمراض الجلدية حتى بدون تعذيب مباشر من جهة آخرى. هؤلاء الأطباء قالوا أيضاً أن المعتقلين لم يتم إعطائهم الأدوية اللازمة ولم يتم علاجهم ولم يعرفوا هم أنفسهم كأطباء عندما كانوا يصفون لهم علاجاً إن كانوا يتلقونه أم لا، ولكنهم يعتقدون أنهم لم يتلقوه وهو ما جعل حالتهم تسوء أكثر بل وأدى لموت بعضهم نتيجة الإهمال الطبي.

“على الرغم من معرفته بما يحدث في فرع الخطيب يومياً، استمر المتهم بعمله حتى نهاية عام 2012!”.

من جميع الشهادات التي ذكرها الادعاء العام، كان واضحاً، كما أكد، منهجية العنف والتعذيب ضد المعتقلين في زنازين فرع الخطيب التي كان المتهم مسؤولاً عنها بصفته رئيس قسم التحقيق، ولكن ليس هذا فحسب، فهناك من الشهود من جاء إلى المحكمة وشهد باعتقاله قبل الثورة، تحديداً الشاهد الذي اعتقل عام 2007 , وآخر اعتقل عام 2010 وأيضاً شاهد الدفاع الصحفي عبد الناصر العايد الذي اعتقل في شباط 2011 أي قبل بدء الثورة بشهر. جميعهم تكلموا عن التعذيب والظروف السيئة الصحية والنفسية والجسدية، وبهذا لم يكتفِ الادعاء العام بالشهود ضد المتهم بل استخدم شهادات الشهود الذين استدعاهم الدفاع لصالحه ببعض النقاط التي ذكروها ولم تكن بصالحه، كالشاهد الذي استطاع المتهم التوسط لإخراجه من السجن في منطقة الميادين في الرقة، والشاهد الذي ساعده بالانشقاق وكان المتهم مندوباً للمخابرات في اجتماع لمسؤولين وضباط رفيعي المستوى.

استمر الادعاء بذكر شهود كُثر ووصف ما ذكروه مما حدث معهم، ثم توجه للقضاة بطلب أن يتخيلوا فقط لو كانوا في هذه الغرفة ويسمعون أصوات صراخ المعتقلين طيلة الوقت، هؤلاء أنفسهم الذين جاؤوا لأداء شهاداتهم هنا، هؤلاء كانوا هم الضحايا خلال كل تلك الأيام التي تعرضوا فيها للاستجوابات وجلسات التعذيب. الزنزانة رقم خمسة كما تحدث عنها أحد الشهود وقال: “مظلمة حتى تكاد لا ترى شيئاً، لا نافذة هناك، لا ليل ولا نهار، فقط فتحةُ صغيرةُ في الباب يدخل منها بعض الهواء والضوء عندما يدعونها مفتوحة، كانت القبر بحد ذاته“.

أبو غضب، السَّجان الأكثر شهرة من نار على علم في قاعة المحكمة الإقليمية العليا الآن، يذكره المدعي العام بعدة مناسبات كأكثر سجَّان تم ذكره من قبل الشهود والمدعين وقام بأكثر أنواع التعذيب وحشية دون وجه حق، وأيضاً ميماتي. كلاهما عملا تحت إمرة رئيس قسم التحقيق، أي المتهم.

أحد الشهود تحدث عن اعتقالهم له في رمضان، وفي زنزانته رأى طفلاً لم يتجاوز السبع سنوات من عمره وعليه آثار تعذيب، قال السيد كلينغه للقضاة: “من الصعب جداً أن ترى آثار تعذيب على طفل! نحن الكبار لن نتحمل ذلك فكيف بطفل!! حتى الشاهد نفسه قال: لماذا يجب أن يعيش طفل مثل هذه التجربة!!“.

شاهد آخر أخبر القضاة عن مُسنِّ قضى في زنزانته، وإياد الغريب أخبر عن معتقل ضُرب بحديدة على رأسه أثناء إخراج المعتقلين من الباص باتجاه الفرع فخرَّ صريعاً على أثر الضربة. شاهد آخر رأى أربع جثث وغيره رأى ثلاث جثث، كما أكد أحد أطباء مشفى الهلال الأحمر رؤيته لعشر جثث، أضاف السيد كلينغه للقضاة وقال: “كل ماذكر على لسان الشهود، محصلته ثلاثون جثة”. وحتى لا يجمع الادعاء على المتهم تهماً بالقتل أكثر، حرص أن لا يأخذ أعداد جثث ذُكرت بشهادات شهود، كانوا معتقلين في ذات الفترة الزمنية، مرتين خشية أن يكونوا قد رأوا الجثة ذاتها، ولذلك وبعد مطالبته الفعلية بداية المحاكمة في لائحة الاتهام الأولية بتجريم المتهم بـ 58 جريمة قتل تحت التعذيب، وارتفاع العدد أثناء المحاكمة لـ 68 جثة، عاد الادعاء في مرافعته الأخيرة ليقول أن العدد الذي دعمته الأدلة وشهادات الشهود هو الآن ثلاثين شخص قتلوا تحت التعذيب، أما الباقي فلم تدعمه الأدلة، لذلك وجه الآن التهمة بثلاثين جريمة قتل تحت التعذيب شارك المتهم بحدوثها أثناء ممارسته لعمله اليومي كرئيس قسم التحقيق ما بين شهر نيسان 2011 وأيلول 2012، واعتماداً على الولاية القضائية العالمية والتي تتوافق مع القانون الجنائي الألماني فإن الكثير من جرائم ضد الانسانية ارتكبت بالفعل خلال هذه الفترة، كما أكد الادعاء العام، وأضاف أنها جرائم تتعلق بالتعذيب الجسدي والنفسي والجنسي على ضحايا واجهوا بأنفسهم نظاماً مجرماً إرهابياً غير محق. في تلك الفترة عُذِّب ما لا يقل عن 4000 معتقل وأُسيئت معاملتهم كما حرموا من الطعام والنوم الكافيين. سوء المعاملة الممنهجة لا يعني فقط ما حدث للمدعين والشهود هنا وما أخبرونا به، بل مازال يحدث لكل معتقل هناك، وجميع عناصر الأمن في فرع الخطيب ساهموا في تلك الجرائم وحرضوا عليها ، كما قال السيد كلينغه.

العنف الجنسي وسوء المعاملة الجنسية كان لهم أيضاً نصيب من مرافعة الادعاء العام معتمدين بشكل رئيسي على شهادة الشاهد فراس فياض والسيدتان رويدة كنعان وروهام حواش، حيث تؤكد شهاداتهم جميعاً أن التعذيب وسوء المعاملة الجنسية وكل ما يندرج تحت مسماهم من تحرش وسواه كان بالفعل يُمارس في فرع الخطيب، بيد أن لذلك عواقب مجتمعية أيضاً ولم يكن أثره على الضحية ضمن فترة الاعتقال فقط، وإنما بعد الخروج من السجن واضطرار الضحية لمواجهة مجتمع لا يتقبل هكذا نوع من الانتهاكات.

“من منصبه كرئيس لقسم التحقيق، كان لدى المتهم رسلان السلطة للتحكم بمجريات التحقيق وكل ما له علاقة بذلك”.

أضاف السيد كلينغه أن كثيراً من الشهود ذكروا خوفهم المسبق من الاعتقال في فرع الخطيب قبيل اعتقالهم فيه، لما له من سمعة سيئة الصيت، ولكن هذا لا يعني تحميل المتهم جميع جرائم النظام المرتكبة هناك، وإنما فقط ما يقع في إطار مسؤوليته حتى وإن كانت منهجية التعذيب والإساءة معروفة تماماً في سجون الأفرع الأمنية كلها. تبقى مسؤولية المتهم محصورة ضمن الفترة الزمنية التي يحاسب عليها /نيسان 2011 حتى أيلول 2012/ لأنه علم بالتعذيب الممارس على المعتقلين، وعلم بالقتل تحت التعذيب وإساءة المعاملة أيضاً التي هو شخصياً مارسها. وجد الادعاء العام أن حجة حصول كل ذلك، لأنه كما قال بقي مع النظام ليحمي عائلته، حجة غير منطقية. تحدث المتهم مع صهره الذي جاء كشاهد أيضاً إلى المحكمة في الشهر الخامس عام 2012 بمسألة الانشقاق ولكنه بقي رغم ذلك، وأيضاً حدثت مجزرة الحولة في ذات الشهر ومع ذلك بقي في منصبه رغم أن موقف النظام كان أضعف بكثير حينها والجميع يعرف ذلك، كما وضح السيد كلينغه وأكمل بقوله أن المتهم استُقبل في الأردن بأذرع مفتوحة، لأن الجميع ظن أنه سيساعدهم ضد النظام بما لديه من خبرات ومعلومات، وهو ما لم يثبت حدوثه.

ختم السيد كلينغه مرافعته أمام هيئة القضاة بعد التمحيص في الأدلة المذكورة وتحديد مسؤولية المتهم الفردية عنها ضمن الفترة التي عمل فيها رئيساً لقسم التحقيق والتناقض الواضح بكلامه عندما أعرب عن رغبته بالانشقاق وتأخره بفعل ذلك لستة عشر شهراً بعد بدء الثورة، بأن الادعاء العام يجد المتهم مذنباً بارتكاب جرائم ضد الانسانية في 4000 حالة تعذيب، 30 حالة قتل تحت التعذيب وجرائم اعتداء جنسي وسلب حرَّية، ولذلك طالب الادعاء العام ممثلاً بالسيد كلينغه والسيدة بولز هيئة القضاة بالحكم بالسجن مدى الحياة للمتهم مع تشديد خاص بالذنب الذي يرونه على مستوى عالٍ من الخطورة، بحيث لا يتم تعليق العقوبة بعد خمسة عشر عاماً مع تحميله كامل تكاليف المحاكمة.

انتهت الجلسة تمام الساعة الرابعة مساءً وأعلنت القاضية كيربر أن الجلسة التالية بتاريخ 08.12.2021 ستخصص لجهة من محاميي الادعاء بالحق المدني وطلبت منهم تحضير موكليهم لتقديم مرافعاتهم الأخيرة.