الدراسات والأبحاث

الاغتصاب كسلاح حرب في حالة النزاع المسلح

المحامية دلال الأوس


مقدمة
شهدت البشرية منذ القرن العشرين حروباً قاسية أودت بحياة الملايين من البشر, واُرتكب خلالها الكثير من الانتهاكات والفظائع, فلم تقتصر هذه الحروب على فئة معينة فقد شملت جميع الفئات من رجال ونساء وأطفال وقد خلفت ندوباً ومآسي لم تمحَ آثارها إلى يومنا هذا، ولأن الحروب واقعاَ لا يمكن وقفه كأحد اشكال حل النزاعات بين الدول , فكان الخيار الاكثر واقعية هو العمل على التخفيف من اضرارها وانتهاكاتها الجسيمة, سيما على الاشخاص المدنيين والفئات المستضعفة منهم, والفئات غير المشاركة في الأعمال العدائية من خلال النص على قوانين وإبرام اتفاقيات دولية .
ولكن تطور القوانين والاتفاقيات الدولية لم يجارِ جسامة الانتهاكات، ومن بين هذه الانتهاكات التي لم تستطع القوانين ايقافها أو وضع حد لها هي جرائم العنف الجنسي وخاصة جريمة الاغتصاب، فقد تفاقمت هذه الجريمة على مر العصور واصبحت تستخدم كأحد اسلحة الحرب، فأثناء الحرب العالمية الثانية اغتصب عدد كبير من النساء الألمانيات من قبل القوات الروسية والاميركية بدافع الانتقام لما حدث لنسائهم من قبل القوات الألمانية، وقامت القوات اليابانية بتسخير أعداد كبيرة من النساء فيما يسمى ” نساء المتعة ” لخدمة رغبات الجيش الياباني كما قاموا باغتصاب أعداد كبيرة من الصينيات في مذبحة نانينج، ولم تستطع محاكم نورمبرغ وطوكيو من توجيه تهم لمرتكبي هذه الانتهاكات ولم يتم مقاضاة إلا القليل، وقد شهدت حرب يوغسلافيا ارتكاب جريمة إبادة جماعية من خلال اغتصاب أعداد كبيرة من النساء بلغ عددهم تقريباً مابين 20 الف و 50 اف امرأة كوسيلة للتطهير العرقي وفي رواندا يقدر انه تم ارتكاب مابين ربع ونصف المليون عملية اغتصاب خلال 100 يوم وقد تم اغتصابهم ليس فقط لكونهم نساء بل بسبب أصلهن العرقي ودينهن وطبيعتهن الجنسية كوسيلة للإبادة الجماعية.
إلا أنه كان للمشورات القانونية وحملات التوعية دوراً كبيراً في عملية تطور القانون الدولي للمحكمتين الجنائيتين الدوليتين التابعين للأمم المتحدة, والذي تم تأسيسهما للنظر في الجرائم المرتكبة في كل من يوغسلافيا ورواندا, وقد حدد نظام كل من المحكمتين وأحكامها المسؤولية الفردية عن هذه الانتهاكات المرتكبة ضد النساء وحدد الاغتصاب في وقت الحرب كجريمة متمايزة وأقر بها بوصفها تعذيباً وفي بعض الظروف وسيلة ” للتطهير العرقي ” وعنصر من عناصر الإبادة الجماعية , ونسبت المسؤولية عن الاغتصاب ليس إلى المرتكبين الفعليين لهذه الانتهاكات فقط بل للذين يصدرون الأوامر ايضاَ, وأرسا نظاميهما مبادئ مهمة ساعدت على الاعتراف بالعنف الجنسي كسلاح في الحرب وأداة للرعب والتدمير .
وفي عام 1998 جاء نظام روما الأساسي الذي قاد الى تأسيس المحكمة الجنائية الدولية, والتي اعترفت بشكل صريح أن الاغتصاب وأشكال العنف الجنسي الأخرى في وقت النزاعات المسلحة تشكل جريمة حرب وجريمة ضد الانسانية وعنصر من عناصر الابادة الجماعية .
وقد عرف جوناثان غوتشال الاغتصاب الجماعي بأنه : “أنماط متميزة من الاغتصاب من قبل الجنود بمعدلات تزيد كثيرا عن معدلات الاغتصاب السائدة وقت السلم ” .
وعلى الرغم من أهمية هذه التطورات الا أنها كانت بطيئة وذات فعالية محدودة, ولم تسهم في الحد من هذه الجريمة بشكل كامل, فلقد قامت العديد من الحروب والنزاعات المسلحة والتي لم تشكل القوانين الدولية رادعاً قوياً لها فيما يتعلق بهذا الانتهاك, والتي حدث فيها اغتصاب واعتداء جنسي على النساء ككولومبيا وسيراليون ودارفور وكونغو والصومال وحديثاً الجمهورية العربية السورية وهو موضوع دراستنا في هذا البحث .
السياق السوري
مضت سبع سنوات على اندلاع الثورة السورية السلمية منذ أذار عام 2011, اُرتكب خلالها الكثير من الانتهاكات الجسيمة بحق المدنيين، من قتل وتشريد وتهجير واغتصاب من قبل قوات وأجهزة الحكومة السورية الأمنية والميليشيات التابعة لها، وأطراف النزاع مخالفين بذلك قوانين حقوق الأنسان والقانون الدولي الإنساني والقانون العرفي, وقد ارتقت هذه الجرائم إلى مصاف الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب .
أدت الحرب القائمة في سورية إلى زيادة التعرض للفئات الأكثر ضعفاً من نساء واطفال, وقد اسًتخدم الاغتصاب من قبل الحكومة السورية كتكتيك منهجي وكوسيلة للإرهاب والاذلال والانتقام وتشويه سمعة المرأة, واستخدمت اجساد النساء كهدف حربي مستغلين بذلك حساسية وضع المرأة والعار الناتج عن هذه الجريمة في المجتمع المحلي السوري، فلقد كانت الحرب السورية دليلاً على أن الاغتصاب يستخدم كسلاح وليس تعبيراً عن رغبة جنسية بل تعبيراً عن السلطة والهيمنة, فلقد استخدم ضد عدد من النساء عند نقاط التفتيش وفي مراكز الاحتجاز وكانت الغاية منها إذلال النساء وإذلال أقاربهم من الرجال, وفي كثير من الحالات تم احتجاز النساء بقصد الحصول على المعلومات أو بغية إرغام اقاربهم من الرجال والذين يشتبه باشتراكهم في القتال مع قوات المعارضة المسلحة لتسليم أنفسهم, وتعرض الرجال أيضاً للعنف الجنسي بما في ذلك الاغتصاب في مراكز الاعتقال من قبل القوات الحكومية,
وقد ذكرت لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن الجمهورية العربية السورية والتي تم انشائها للتحقيق في انتهاكات حقوق الانسان في أراضي الجمهورية العربية السورية, في تقاريرها المتعددة عن حدوث عمليات اغتصاب وتهديد بالاغتصاب ضد النساء والرجال في مراكز الاحتجاز, وان هذه الجرائم ترقى إلى مصاف جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية, وأن قوات الحكومة ارتكبت من خلال الاعتداءات الجنسية جريمة الحرب المتمثلة في الاعتداء على الكرامة الشخصية .
وأشارت إلى تعمد القوات الحكومية، ولا سيما في محافظتي ريف دمشق ودرعا، إلى إلقاء القبض على النساء واحتجازهن لإرغام أقاربهن من الذكور على الاستسلام.
وقد أعلنت عن اخفاق الحكومة السورية اخفاقاَ بيناً في حماية المدنيين, وأن القوات السورية قد ارتكبت انتهاكات واسعة النطاق ومنهجية وجسيمة لحقوق الانسان, بمعرفة واضحة من مسؤولين على أعلى مستويات الدولة وبموافقتهم ، وأنه هنالك اسباب معقولة تحمل على الاعتقاد بوجود حالات اغتصاب واعتداء جنسي تعرض له الرجال والنساء والاطفال على أيدي أفراد القوات الحكومية وعناصر “الشبيحة”, وأن الاغتصاب والاعتداء الجنسي يشكلان عنصراً اساسياَ من عناصر عملية التعذيب في مراكز الاحتجاز الرسمية وغير الرسمية .
وقد قام تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام “داعش” باختطاف عدد من النساء الايزيديات السوريات والعراقيات بسبب معتقداتهن الدينية , والتي يعتقد التنظيم أنها مخالفة للشريعة الأسلامية, وذلك في أب من عام 2014 حيث شن هجومه على منطقة سنجار شمال العراق, وأجبر الفتيات على دخول أراضي الجمهورية العربية السورية حيث تعرضن لانتهاكات فظيعة فقد تم بيعهن ووهبهن لزعماء التنظيم ورؤساء العشائر لغرض الاستعباد الجنسي والاغتصاب .
وقد ذكرت اللجنة أيضاً في تقريرها العاشر قيام تنظيم الدولة الإسلامية بممارسة أعمال عنف وإرهاب ضد السكان المدنيين الخاضعين لسيطرته في محافظات الرقة ودير الزور والحسكة وحلب وحماة وحمص. ،, بالإضافة لارتكابه جرائم القتل العمد والتعذيب والاغتصاب والاستعباد الجنسي والعنف الجنسي والتهجير القسري وأفعالاً لا إنسانية أخرى، في إطار هجمات واسعة النطاق على السكان المدنيين، ترقى إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية .
وقد لجأت قوات المعارضة المسلحة إلى احتجاز النساء واستخدامهن كورقة مساومة من أجل استبدالهن بأسرى من النساء والمقاومين المعتقلين لدى القوات الحكومية, ولكن لا توجد أدلة كافية لحدوث عمليات اغتصاب ممنهجة وواسعة النطاق من قبل هذه القوات,
الاغتصاب في المعتقلات السورية
يقدر عدد المحتجزين في سورية بحلول عام 2018 بعشرات الألاف وهو يشمل الأطفال والسيدات, وتقبع السيدات المحتجزات في معتقلات لا يمكن لأحد تخيل أشكال وأنماط التعذيب فيها، وتفتقر إلى أدنى مستويات الاهتمام والرعاية الصحية والطبية فضلاَ عن الازدحام الشديد، وهن لا يخضعن لإجراءات التقاضي العادلة ولا يسمح لهن بالتواصل مع ذويهن ومحاميهن للدفاع عنهن، وتتعرضن أثناء احتجازهن سيما في المراكز الأمنية، لشتى أنواع التعذيب والمعاملة القاسية والمهينة والحاطة بالكرامة الإنسانية، فمن لحظة اعتقالهن يخضعن للتفتيش البدني المهين والتعذيب النفسي، وقد يجبرن على التعري القسري مع استماعهن لكلمات بذيئة وإساءات لفظية، ويتعرضون للتحرش الجنسي الجسدي واللفظي من قبل عناصر الأمن الذين غالباَ ما يكونوا من الذكور، ومع حقيقة غياب الاحصائيات الدقيقة تشير التقارير إلى تعرض أغلبية النساء الذين يتم اعتقالهم لأحد أنواع العنف الجنسي كالاغتصاب والاغتصاب المتكرر أو التهديد بالاغتصاب أو مشاهدة اغتصاب المعتقلات والمعتقلين أو التحرش الجنسي والاساءات اللفظية وقد تم اغتصاب الكثير من السيدات أمام أطفالهم وأقاربهم.
وقد يتعرض نسبة كبيرة منهن للعاهات الدائمة والأمراض المستعصية بسبب شدة التعذيب ووحشية الاغتصاب وعدم تلقيهن العلاج، وقد تحدث تقرير للشبكة السورية لحقوق الإنسان عن ذلك وذكر أن حوالي 40% من المعتقلات أصبحن يعانين من عاهات دائمة وأمراض دائمة والتي تتفاقم بسبب الاهمال المتعمد، فضلاً عن حدوث حالات حمل بسبب الاغتصاب المتكرر، وتتلقى الفتيات الحوامل معاملة سيئة بغية اجهاض الجنين حيث يتم ضربهن بوحشية، وقد يجبرن بعضهن على الاحتفاظ به والتعايش معه فتجد عدداَ لا بأس به من السيدات والفتيات الصغيرات مع أطفالهم بداخل الأفرع الأمنية والسجون الرسمية .
الاغتصاب أثناء المداهمات
تتعرض الفتيات والسيدات أثناء مداهمة منازلهم للإساءات الجنسية، فقد تحدث تقرير هيومن رايتس ووتشعن أن سيدات وفتيات حتى سن 12 تعرضن للإساءة من قبل القوات الحكومية السورية والميلشيات التابعة لها في الغارات على منازلهم والمداهمات العسكرية للمناطق السكنية.
فتعرضت بعض السيدات للتهديد بالاغتصاب في حال لم يقم أقاربهم بتسليم أنفسهم، وتم اغتصاب بعضهم في منازلهم ومنهم من تم أخذهن إلى موقع أخر واعُتدي عليهن جنسياَ، كما تم قتل بعض السيدات، ويتحدث التقرير عن اغتصاب سيدة وبناتها القاصرات في حي كرم الزيتون بحمص من قبل قوات النظام أثناء مداهمة منزلهم وتم قتل إحدى الفتيات حين مقاومتها بطلقة في رأسها.
وأشار التقرير إلى عدم اتخاد أي إجراء للتحقيق مع مرتكبي هؤلاء الانتهاكات، أو معاقبتهم، أو منعهم من ارتكاب مثل تلك الأعمال في المستقبل.

السيدات في المخيمات
مع تزايد وتيرة النزاع سعى الكثير من السوريين للفرار من بلدهم بحثاً عن ملاذ أمن سواء في دول الجوار أو عبر البحار, فكان للدول المجاورة لسورية كلبنان والأردن وتركيا أكبر نصيب من عدد اللاجئين فقد فر نحو خمسة ملايين سوري خارج البلاد، 48,5% من اللاجئين هم من السيدات.
ونتيجة للأحوال المعيشية السيئة فقد تتعرض النساء للعنف الجنسي داخل المخيمات من قبل أزواجهن الذين يشعرون بالعجز ولا يستطيعون الحصول على أي عمل وليس لديهم حرية التنقل، كما يتعرضوا للتحرش والاغتصاب من قبل الآخرين أو مسؤولي المخيمات أو مسؤولي تقديم الخدمة والإغاثة , و تتعرض الفتيات الصغيرات للزواج المبكر لرجال يكبرهن سناً بغية الحصول على أموال لإعالة أسرهن فقد أشارت عدد من التقارير الى حدوث زيجات أطفال في مخيمات اللجوء تتم عبر مكاتب خاصة تبررها فتاوى دينية, وخصوصا في مخيمات الاردن وتركيا، كما تتعرض النساء في الأسر التي تفقد معيلها للاستغلال المادي ويتم استغلالهن ضمن شبكات الاتجار بالبشر، مما يؤدى إلى وجود عدد كبير من النساء السوريات في السجون بتهمة الدعارة.
الاغتصاب في القانون الدولي :
عملت الأمم المتحدة من خلال الشرعة الدولية لحقوق الانسان على تأكيد مبدأ المساواة بين الجنسين, وعلى حق كل انسان بالتمتع في جميع الحقوق والحريات دون تمييز بما في ذلك التمييز على أساس الجنس وإعطاء حماية خاصة للنساء, فقد ترجمت ذلك بعدد من الاتفاقيات والمؤتمرات والتوصيات والتي تحدث بعضها بشكل خاص عن العنف الموجه للنساء أثناء النزاعات .
فقد حظرت اتفاقيات جنيف جرائم الاغتصاب والجرائم التي ترتكب ضد النساء فنصت المادة 27 / 2 من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949بشأن حماية الاشخاص المدنيين في وقت الحرب :على انه يجب حماية النساء بصفة خاصة ضد أي اعتداء على شرفهن ولاسيما الاغتصاب , والإكراه على الدعارة وأي هتك لحرمتهن .
وتحظر المادة 3 المشتركة من اتفاقيات جنيف التشويه والمعاملة القاسية والتعذيب والاعتداء على الكرامة الشخصية، وعلى الأخص المعاملة المهينة والحاطة بالكرامة”, ويدعو البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1977 إلى توفير حماية خاصة للنساء أثناء النزاعات في مادته رقم 76 .
وفي عام 1979 جاءت اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة والتي خلقت نوعاً من الترابط بين الحقوق المختلفة واقترحت أليات وتدابير قانونية وسياسية, تساعد على المساءلة, لكنها لم تتطرق كثيراَ لموضوع العنف ضد المرأة في النزاعات, لذلك صدر فيما بعد التعليق العام رقم19 الذي حمل الدول المسؤولية عن أعمال العنف التي ترتكبها جهات خاصة متى فشلت في اتخاذ إجراء مناسب تجاه هذا العنف, و لم تحقق في مزاعم العنف ونصت الفقرة 16 على أنه “كثيراً ما تؤدي الحروب والمنازعات المسلحة واحتلال الأراضي إلى زيادة البغاء والاتجار بالنساء والاعتداء الجنسي عليهن، مما يستدعي تدابير وقائية وجزائية معينة”.
ثم جاء إعلان الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن القضاء على العنف ضد المرأة (1993) والذي عرف العنف :”على انه أي فعل عنيف تدفع إليه عصبية الجنس، ويترتب ع ليه أو يُرجح أن يترتب عليه، أذى أو معاناة للمرأة، سواء من الناحية الجسمانية أو الجنسية أو النفسية، بما في ذلك التهديد بأفعال من هذا القبيل أو الإكراه أو الحرمان التعسفي من الحرية، سواء حدث ذلك في الحياة العامة أو الخاصة”. وأكد على واجب الدول بإدانة العنف ضد المرأة وعدم التذرع بأي عرف أو تقليد أو اعتبارات دينية للتنصل من التزاماتهم .
ونص الإعلان الخاص بحماية النساء والأطفال في حالات الطوارئ والمنازعات المسلحة لعام 1993على أنه يتعين على جميع الدول المشتركة في منازعات مسلحة، أو في عمليات عسكرية في أقاليم أجنبية أو في أقاليم لا تزال تحت السيطرة الاستعمارية، أن تبذل كل ما في وسعها لتجنيب النساء والأطفال ويلات الحرب, ويتعين أتخاذ جميع الخطوات اللازمة لضمان حظر اتخاذ تدابير كالاضطهاد والتعذيب والتأديب والمعاملة المهينة والعنف، وخاصة ما كان منها موجهاً ضد ذلك الجزء من السكان المدنيين المؤلف من النساء والأطفال .
وقد روج برنامج عمل فيينا 1993 لمفهوم أن جميع الحقوق “عالمية وغير قابلة للتجزئة ومترابطة ومتشابكة”, وأكد في فقرته 38 على أن انتهاكات حقوق المرأة تشكل في حالات النزاع المسلح انتهاكات للمبادئ الأساسية لقانون حقوق الإنسان الدولي وللقانون الإنساني الدولي, وجميع الانتهاكات التي هي من هذا النوع، بما في ذلك على وجه الخصوص القتل والاغتصاب المنهجي والاستعباد الجنسي والحمل القسري، تتطلب رداً فعالاً بصفة خاصة .
وأكد منهاج عمل بيجين لعام 1995 و الذي عقد في بكين, على أهمية حقوق المرأة وحقوق الإنسان والالتزام باتخاذ إجراءات محددة لضمان احترام هذه الحقوق وملاحقة ومعاقبة مرتكبي جرائم الاغتصاب .
وذكر التعليق العام رقم 28 لعام 2000 : في فقرته رقم 8 على أن المرأة تكون ضعيفة بوجه خاص في أوقات النزاعات الداخلية أو الدولية المسلحة. وينبغي للدول الأطراف أن تبلغ اللجنة بجميع التدابير التي تتخذ في ظل هذه الأوضاع لحماية النساء من الاغتصاب والاختطاف وغيرهما من أشكال العنف القائم على الجنس .
وقد أصدر مجلس الأمن عدة قرارات تتناول على وجه التحديد العنف القائم ضد النساء في سياق الازمات, وهذه القرارات ملزمة لجميع الدول الأعضاء في المنظومة الدولية, وأهمها القرار رقم1325 لعام 2000 الذي يدعو الى توفير حماية أكبر للنساء والاطفال وتقديم مرتكبي هذه الانتهاكات إلى العدالة, وهو أول قرار لمجلس الأمن يربط المرأة بجدول أعمال السلام والأمن ويعترف بالعنف الجنسي في حالات النزاع كمسألة من مسائل السلام والأمن الدوليين, و يتناول آثار الحرب على المرأة ومساهمتها في حل النزاعات وتحقيق السلام المستدام وقد لحق بهذا القرار ست قرارات مكملة له.
وقد أقرت مفوضية الامم المتحدة أن الاغتصاب يمكن أن يشكل عنصر اضطهاد يسمح بالاعتراف للشخص بحقه في الحصول على اللجوء وفقاً لاتفاقية عام 1951 الخاصة باللاجئين، وأوصت بمعاملة طالبي اللجوء ممن كانوا ضحايا العنف الجنسي بأقصى درجات الاحترام نظراً لمعاناتهم .
جريمة الاغتصاب أمام محاكم رواندا ويوغسلافيا :
لم يعتبر الاغتصاب ضمن قوائم جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية قبل انشاء هاتين المحاكمتين ,حيث ان هذه الجرائم غالباَ ما يتم تجاهلها والمحاسبة عليها, فقد فشلت محاكم نورمبرغ وطوكيو في ادراج جرائم الاغتصاب ضمن لوائح الاتهام لمن تمت محاكمتهم فيه, مع أن القانون الدولي الانساني لم يخلى من مواد تعنى بهذه الجرائم إلا أنه لم يكن هناك أليات وقوة لتنفيذه .
وقد ادانت المحكمتين التي تم انشائهما في عامي 1993 و1994 عدداً من المتهمين لارتكابهم افعالاً وجرائم كالاغتصاب الجنسي والتعري القسري والعبودية الجنسية والاذلال الجنسي .
وحدد النظامان الأساسيان لكل منهما مبادئ مهمة ساعدت على الاعتراف بالعنف الجنسي كسلاح من أسلحة الحرب وأداة لبث الرعب والخوف .
و مع أن محكمتي يوغسلافيا السابقة وروندا قدمتا مساهمة كبيرة في مجال تطوير مفهوم الجرائم الدولية ذات الطبيعة الجنسية الموجهة ضد المرأة، إلا أنّ أيّا منهما لم يخلق مبادئ ملزمة لباقي الدول في كيفية التعامل مع العنف الموجه ضد المرأة أثناء النزاعات المسّلحة حيث أن هذه الدعاوى القضائية تبقى معينة ومحددة لهذه المحاكم الخاصة .
ولكن نظام روما الذي أنشأ المحكمة الجنائية الدولية اعترف بالاغتصاب والأنواع الأخرى من الاعتداءات الجنسية في مواده 7 و8 كجرائم حرب وجرائم ضد الانسانية وعناصر للإبادة الجماعية ، إذا ما ارتكب على نطاق واسع ومنهجي موجه ضد السكان المدنيين, وإذا ما ارتكب الاعتداء باستعمال القوة أو بالتهديد باستعمالها أو بالقسر.
وتوضح القاعدة 93 من دراسة القانون الدولي الانساني العرفي التي نشرتها اللجنة الدولية للصليب الاحمر عام 2005, حظر الاغتصاب وغيره من أشكال العنف ذي الصلة بالنزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية .
وتم تعيين مقرر خاص معني بالعنف ضد المرأة من قبل لجنة حقوق الأنسان عام1994 , وكذلك ممثل خاص للأمين العام معني بالعنف الجنسي في حالات النزاع من أجل متابعة مسألة العنف الجنسي في النزاعات المسلحة وتقديم توصيات في هذا الصدد, وللمقرر الخاص ولايات تتمثل في تلقي معلومات عن العنف ضد المرتكب ضد النساء من قبل الحكومات وهيئات المعاهدات والمنظمات غير الحكومية, وتلقي شكاوى من الأفراد الذين ارتكبت انتهاكات بحقهم من قبل الحكومات .
الاغتصاب في القانون السوري
لم يتطرق القانون السوري لجرائم الاغتصاب في زمن الحرب, بل اقتصر على ذكر جرائم الاغتصاب الفردية في مواد قانون العقوبات السوري تحت مسمى الجرائم المخلة بالأخلاق والآداب العامة , والتي تخفف فيها عقوبة مرتكبها في حال تزوج الضحية, ومع أن الدلائل تشير إلى أن العنف ضد المرأة في حالات النزاع المسلح يشكل امتداداً لما تتعرض له في أوقات السلم,إلا أن اليات العدالة المحلية كانت عاجزة وغير راغبة في إيجاد حل أو ووسيلة للحد من هذه الجرائم .
ومع أن سورية من الدول المصادقة والمنضمة إلى أغلب الاتفاقيات الدولية والتوصيات ومن الدول المصادقة على القرار 1325 إلا أنها لم تلتزم بها ولم تؤمن حماية كافية للنساء , بل على العكس تغاضت عن ارتكاب قواتها لهذه الانتهاكات ولم تقم بردعهم بل أن القوانين السورية تساعد دائماَ هذه القوات على الإفلات من العقاب وتعطيهم حماية خاصة حيث أن عدم المحاسبة سيؤدي إلى استمرار العنف بالإضافة لكونها قوانين تمييزية ضد المرأة .
أثر الاغتصاب على النساء :
في الواقع لا توجد أرقام دقيقة لعدد النساء المغتصبات أو تقديرات لحجم العنف الجنسي حيث أن التوثيق نادر وصعب جداَ, بسبب تكتم السيدات والأهالي عن هذه الجريمة خوفاَ من الوصمة الاجتماعية والعار من جهة, ومن جهة أخرى قيام الحكومة السورية بتضييق النطاق على الناشطين والعاملين في المجال الحقوقي والانساني والراصدين, وعدم السماح للجنة التحقيق والمراقبين المستقلين دخول الأراضي السورية ,بالإضافة لعدم امتلاك الخبرة في توثيق هذه الحالات, وعدم وجود مراكز دعم نفسي واجتماعي متخصصة للتعامل مع الضحايا, مما يصعب القيام بهذه المهمة فاقتصرت الأرقام على تقارير عامة وتقديرات شخصية.
يترك الاغتصاب آثاراً بعيدة المدى على السيدات والمجتمعات, وهذه الآثار تختلف من حالة لحالة وتعتمد على عدد من العوامل الفردية أو المجتمعية أو الثقافية .
الناحية الجسدية :
تعاني السيدات بعد الاغتصاب من عدد من الأمراض الجنسية فعلى سبيل المثال عانت 70% من النساء في رواندا من مرض الإيدز بعد النزاع الذي دار فيها, وفي سورية لم يتم الابلاغ عن حالات مماثلة ولكن ذلك لا ينفي وجود مثل هذه الحالات أو يؤكدها وخصوصاَ بوجود العديد من المقاتلين الأجانب, وعدم وجود مراكز تخصصية تكشف هذا الفيروس, فضلاَ عن أن الإصابة بفيروس نقص المناعة المكتسب يعتبر في المجتمع السوري وصمة عار مما يدفع المصابين به عموماَ لعدم ذكره .
كما قد تفقد المرأة قدرتها الجنسية والانجابية وذلك بسبب تعرضها للاغتصاب, وتشويه اعضائها التناسلية, وقد ينتج عن هذا الاغتصاب حمل قسري حيث تقوم الكثير من الفتيات بعملية الإجهاض, فيلجأن لوسائل بدائية وليس طبية للتخلص من ما يسمى العار وإخفاء اغتصابهن.
الناحية النفسية
يمس الاغتصاب جانب حساس من كيان الفتاة جسدياَ ونفسياَ, حيث يتم ربط ما حدث بالشرف العائلي والفردي, فتجد السيدات بعد الاغتصاب منطويات على أنفسهم ومنعزلات, وفي حالة خوف دائم من الرجال وعدم تقبلهم, بالإضافة للشعور الدائم بالذنب والعار والخزي ولوم الذات وفقدان احترام الذات والتوتر والتشتت فكرياً والخدر العاطفي والتفكير بالانتحار .
الناحية الاجتماعية
ولعل اخطر الاثار هي الناحية الاجتماعية بسبب الفكرة السائدة أن أي سيدة معتقلة فأنها تلقائياً مغتصبة, مما يدفع عائلتها في بعض الحالات لمقاطعتها ووصمها بالعار من قبلهن ومن قبل المجتمع, حيث تتلقى الفتيات اللوم وقد تنبذ من المجتمع المحيط بل قد تنبذ من أسرتها وهو الأسوأ و قد تنهار أسرتها اذا كانت متزوجة حيث يقوم الزوج بتطليقها وحرمانها من حقوقها الزوجية ومن أطفالها وترغم بعض المغتصبات على الزواج قسراً من اشخاص لا يرغبون بهم من أجل اخفاء اغتصابهن .
وبذلك تبقى السيدات دون معيل لذلك يسعين للبحث عن عمل وغالباَ ما يتم استغلالهم في ظروف العمل جسدياَ ومادياَ .
وقد تعرضت سيدات للقتل وتعرض بعضهم للأذى الجسدي بحجة الدفاع عن الشرف .
وتكون الأثار أكثر شدة وخصوصاً من الناحية الجسدية على الفتيات الصغيرات, وذلك لضعف مقدرتهم الجسدية ولعدم امتلاكهم خبرة ودراية بأمور الصحة الإنجابية .
اغتصاب الأطفال والرجال
يعتبر العنف الجنسي ضد الرجال في سورية هو الأعلى في تاريخ النزاعات المسلحة وقد تحدثت تقارير لجنة التحقيق عن تعرض الفتيان والرجال للعنف الجنسي في مراكز الاعتقال والاحتجاز , ويتعرضون للاغتصابأما من قبل سجانيهم أو بإلزام المعتقلين على اغتصاب بعضهم, وفي تقرير نشرته صحيفة الغارديان تحدث التقرير عن حدوث عمليات اغتصاب لرجال وفتيان اثناء مداهمة منازلهم وفي المعتقلات, وعن أن الايذاء الجنسي هو أمر روتيني في أماكن الاحتجاز السورية .
خاتمة
تعتبر النساء عماد المجتمع وسيصبح لهم الدور الكبير في إعادة بناء المجتمعات بعد انتهاء الحروب, ومن المستحيل بناء مجتمع سوري ديمقراطيوالقيام بعمليات سلام من استمرار العنف ضدهم وعدم اشراكهم في عمليات صنع القرار, فاغتصاب النساء يؤدي إلى تفكك المجتمع وزيادة حالات اللجوء وحالات الانتقام الشخصية .
ومن العوامل المهمة التي تؤدي إلى تزايد العنف ضد المرأة هو عدم محاسبة مرتكبي هذه الانتهاكات لذلك يوجب تقديم مرتكبيها إلى العدالة بداية عن طريق القضاء الوطني , أو بإحالة ملف سورية عن طريق مجلس الأمن إلى المحكمة الجنائية الدولية, وحالياَ الخيار الوحيد الموجود هو تفعيل الاختصاص القضائي العالمي الذي يوجب على الدول الأعضاء في الاتفاقيات الدولية محاسبة مرتكبي الانتهاكات ولو لم يكونوا على أراضيها ممن خالفوا بنود هذه الاتفاقيات، ولارتكابهم جرائم حرب بموجب اتفاقيات جنيف والقانون العرفي، فمن حق النساء أن ترى الجناة يساقون إلى العدالة وأن يحصلن على تعويض مناسب لما أرتكب بحقهن وأن يعاد تأهيلهن و يأخذن ضمانات بعدم التكرار .

اترك تعليقاً