الدراسات والأبحاث

الثورة السورية واحتمالات عودة الديكتاتورية

الأوضاع قبل الثورة

الثورات بشكل عام وإن كان هدفها الأساسي تغير النظام السياسي إلا انها تقوم بطريقها بتغيير البنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لأن الثورات لا تقوم إلا باهتراء بنية المجتمع من كل جوانبه.
ويختلف حجم التغيير ومداه بالبنية المجتمعية بكل وجوهها تبعا لظروف وأسباب انطلاق الثورة والمسار الذي تتخذه والوقت الذي تستغرقه والوسائل التي تستعملها.
هناك حركات مجتمعية كبيرة لم تنجز خلال تحركها سوى تغيير شكل السلطة السياسية واشخاصها ولم تصل لبنية العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تحكم وتتحكم بالمجتمع ككل. هي حركات قاربت الثورة ولم تصل لأن تكون ثورة حقيقية .
والثورات الكاملة الحقيقية هي التي تقلب كل بنى المجتمع وعلاقاته وتغير المفاهيم القديمة التي رسخت في عقل المجتمع وعاداته وطريقة تفكيره والعلاقات ما بين مكوناته.
ومع أن أسباب قيام الثورات عديدة منها السياسي والاقتصادي والاجتماعي إلا أن تأثيرها يكون واضحا على كل الاتجاهات بسبب اهتراء البني الحاملة للمجتمع ككل . ولعل أعمق الثورات وأشملها هي التي تتضافر كل العوامل ويشارك بها كل مكونات المجتمع وطبقاته وفئاته كل لسببه الخاص.
والثورة السورية هي من هذا النوع العميق والشامل والواسع . فأسباب انطلاقها هو تراكم طويل ومرير من القهر السياسي والانفراد بالسلطة والقمع وممارسة أقسى وأبشع طرق الاستبداد السياسي المباشر على المجتمع واستعمال كل وسائل الإرهاب والتنكيل والقمع بحق الشعب طيلة أكثر من خمسون عاما مما أدى إلى احتقان كبير بالمجتمع وشعور بفقدان القيمة الإنسانية للمواطن وإحساسه بالمشاركة بالوطن فهو مجرد نكرة وأجير لدى أصحاب النفوذ وليس صاحب حق؟
بالإضافة إلى الضغط الاقتصادي الكبير حيث كان دخل المواطن في تراجع مستمر ويجد نفسه رويدا رويدا ينزلق إلى الفاقة والحاجة وازداد عدد الفقراء والمحتاجين وارتفعت معدلات البطالة فيما أصحاب النفوذ يكدسون المال على حساب الناس, واستخدمت السلطة كل الوسائل لقهر المواطن واستلابه , فوجوده السياسي مرتبط بمدى ارتباطه بالأجهزة الأمنية وتنفيذ طلباتها . ووجوده الاقتصادي أي عمله مرتبط بولائه للسلطة وعدم القيام بأي عمل أو قول يخالف ممارساتها تحت طائلة التسريح التعسفي, ليس هذا فحسب بل وصلت لحد الضغط اقتصاديا بتسريح ومنع عمل أقرباء وأهل المعارضين السياسيين في محاولة لإرهاب البيئة الحيطة بهم ومنع أي حالة حتى تعاطف وليس تأييد لهم, وحتى مارست القهر الثقافي بتسيييد ثقافتها وفنها اللذان يسبحان بحمدها وحاربت أي فن أو ثقافة مستقلة . بالإضافة إلى سيطرة كاملة على الإعلام بكل أشكاله المرئية والمسموعة والمقروءة وحظر وحجب أي إعلام مخالف أو صوت معارض. أي أنها أطبقت وبيد من حديد على أي مجرى هواء يمكن أن يصل للمجتمع وكانت السلطة هي المتحكمة الوحيدة والحصرية بكل مفاصل وتفاصيل المجتمع عبر أجهزتها الأمنية حصرا مباشرة أو بالواسطة عبر أدوات تحت السيطرة والتحكم الكامل .
حتى على صعيد البناء العمراني فقد استغلته لمصلحتها فأطلقت يد الموالين لها والمرتبطين بها لإشادة المخالفات العمرانية بكثرة وكثافة مما كدس لديهم ثروات هائلة ووضعت السكان القاطنين في مناطق المخالفات تحت إرهاب طردهم وهدم منازلهم . كما وضعتهم تحت الابتزاز بالولاء مقابل تزويد هذه البيوت المخالفة بالحد الأدنى من خدمات الماء والكهرباء والصرف الصحي . وجعلت هذه الخدمات البسيطة منحة ومكرمة لتقديم المزيد من الولاء .واعتمدت بذلك على عدم إصدار المخططات التنظيمية للمدن والبلدات وتعقيد الحصول على رخص البناء مما جعل الحاجة للمخالفات ضرورة في ضوء الازدياد السكاني الكبير. واستخدمت قانون الاستملاك لزيادة غنى المرتبطين بالسلطة على حساب المالكين البسطاء.
وتلاعبت بالأقليات العرقية والدينية والطائفية وأصبح الولاء المطلق مدخل لنيل أبسط الحقوق . ففي الحالة الكردية شجعت وبسطت الحماية على أحزاب محددة وجعلتهم أوراق لعب وتلاعب خدمة لأجندة اقليمية تتعلق بالعلاقة مع الجارين التركي والعراقي , في الوقت الذي قمعت به حقوق الأكراد ومارست تطهيرا عرقيا في مناطقهم وتعريب لأسماء القرى والبلدات ونقل وتهجير بين العرب والأكراد وحجبت حق المواطنة والجنسية على عشرات الآلاف منهم ومارست قمعا شديدا على الأحزاب التي عارضت النظام.
وتلاعبت بالأقليات المسيحية بمنحهم بعض الحقوق الشكلية بممارسة الشعائر فيما حرمتهم من حق المشاركة السياسية وقد شهدت فترة حكم البعث أكبر أعداد هجرة للمسيحيين خارج البلاد حيث استقبل العالم وبالأخص الدول الاسكندنافية عشرات الألوف منهم .
وتلاعبت بالأقلية الدرزية واعتبرت الدروز رهائن تجاه علاقتها من الأقلية الدرزية بلبنان ينوس وضعهم مع نوسان العلاقة مع مواقف زعماء الدروز بلبنان وليد جنبلاط وطلال أرسلان .
من هذا المرور السريع على الوضع السوري الذي صنعه النظام وما آل إليه المجتمع بعد خمسون سنة من الاستبداد نصل أن أكثر من تسعون بالمائة من الشعب السوري كان متضررا من النظام وممارساته دون أن بذور الثورة كانت كامنة فعليا بالمجتمع قبل بدئها بسنوات , ولعل الانتفاضة الكردية عام 2004 والاشكالات التي حدثت بين أهل السويداء والبدو والتي غذّاها النظام كانت مؤشرات عن حالة الاحتقان التي وصلها المجتمع , ولو التقطت القوى المعارضة هذه الاشارات وبنت عليها منذ ذلك الوقت ربما لم نكن ندفع كل هذا الثمن الكبير ثمنا للحرية والانعتاق من الديكتاتورية. فقد كانت الظروف الداخلية للثورة جاهزة ولكن الظروف الخارجية لم تكن جاهزة لدعم وتبني الثورة حين ذاك .
نشوء الديكتاتوريات واستمرارها- سوريا نموذج-
نشوء الديكتاتوري ليست مسألة سهلة وبسيطة وإنما هي عمل معقد نوعا ما , فوصول مجموعة محددة لسدة السلطة في بلد ما يكون بطريقتين إما بانقلاب عسكري تضع فيه مجموعة عسكرية يدها على السلطة كاملة كما حصل في معظم بلدان العالم الثالث وفي منطقتنا كما سوريا ومصر والعراق أو بفعل ظرف خاص ناتج عن احتلال خارجي أو تهديد خارجي أو مهمات داخلية ملحة وخطيرة فيختار الشعب انتخابيا مجموعة تضع يدها تدريجيا على السلطة كاملة وعلى مقدرات البلاد كما حصل في ألمانيا وإيطاليا ومصر مؤخرا حيث وصل هتلر وموسوليني ومحمد مرسي بالانتخابات للسلطة.
ولا يكفي أن تصل هذه المجموعة للسلطة حتى تنشأ ديكتاتورية فمن أجل الاستمرار والديمومة تقوم بخلق بيئة قانونية كاملة تحمي وجودها وقطع الطريق على أي محاولة لانتزاع السلطة منها بالمستقبل وهذه البيئة القانونية تشمل كل نواحي المجتمع .
وفي النموذج السوري نجد أن انقلاب آذار 1963 جاء تحت الشعارات الداخلية الواعدة بالاستقرار والعدالة الاجتماعية ومحاربة الاقطاع وعودة الأراضي للفلاحين ورفع مستوى ذوي الدخل المدود والشعارات الخارجية تحرير فلسطين ومحاربة الامبريالية والصهيونية والوحدة العربية .
ومع البيان رقم واحد الذي أعلن الانقلاب جاء البيان رقم 2 الذي صادر الصحف والمجلات جميعها وقمع حرية الإعلام ومع قوانين تثبيت الإيجارات وقانون الاصلاح الزراعي ومنع تسريح العمال جاءت قوانين إحداث محكمة أمن الدولة العليا ومحكمة الميدان العسكرية الاستثنائيتين والمرسوم التشريعي رقم 6 الذي يحكم بالإعدام على كل من يناهض اهداف الثورة ويعرقل تطبيق التشريعات الاشتراكية .
وجاء الانقلاب الثاني في تشرين الثاني 1970 حيث بدا بتأسيس الأرضية القانونية بشكل ممنهج لترسيخ السلطة بيد الرئيس شخصيا وذلك عبر إصدار دستور ركز السلطة كلها بيد رئيس الجمهورية
فقد جاءت المادة الثانية منه لتنص على أن النظام هو نظام رئاسي . ومدة الرئاسة سبع سنوات
ويجري اختيار الرئيس عبر استفتاء على مرشح تقترحه القيادة القطرية لحزب البعث حصرا ولا يمكن لغير البعثي أن يرشح نفسه للرئاسة حسب المواد 71 – 84
ووضعت كل الصلاحيات التنفيذية والتشريعية والقضائية بيد رئيس الجمهورية فرئيس الجمهورية هو القائد العام للجيش والقوات المسلحة ويعلن حالة الحرب والسلم .
ورئيس الجمهورية هو رئيس السلطة التنفيذية وهو الذي يعين رئيس الوزراء والوزراء ويرأس الجلسات ويحدد مهام الحكومة وهي مسؤولة أمامه ولا تحتاج لموافقة مجلس الشعب.
كما ان رئيس الجمهورية يرأس مجلس القضاء الأعلى المادة 132
كما أن للرئيس كامل الصلاحيات التشريعية حيث له الحق بإصدار المراسيم التشريعية والقوانين بكل أنواعها حسب المواد 111 – 112 – 113
كما أن للرئيس وحده إصدار العفو العام وإعلان حالة الطوارئ المواد 101
وللرئيس حق تعطيل الدستور حسب المادة 149
وجاءت المادة 39 لتعطل عمل المحكمة الدستورية العليا وتمنع عنها النظر بدستورية القوانين ما لم يطعن بالقانون أمامه رئيس الجمهورية أو ربع أعضاء مجلس الشعب وخلال فترة خمسة عشر يوما من تاريخ صدوره فقط, ووضع المحكمة تحت وصاية رئيس الجمهورية بمنحه الحق بتعيين أعضائها دون حاجة لأي موافقة من أي جهة وحدد مدة العضوية بأربع سنوات فقط مما وضع أعضائها تحت وصاية وهيمنة رئيس الجمهورية وحده , المواد 62 – 145 .
وبعد هذا كله حصّن الدستور رئيس الجمهورية من أي محاسبة أو مساءلة عن الجرائم التي يرتكبها فيما خلا حالة الخيانة العظمى وتجري محاكمته أمام المحكمة الدستورية العليا التابعة له أساسا.
وحصنت المادة 139 فبركة وتزوير الانتخابات بمنع الطعن بنتائجها إلا أمام المحكمة الدستورية العليا وحتى نتائج الطعن إذا جاءت بكشف التزوير منعت المادة المذكورة تنفيذها باشتراطها موافقة مجلس الشعب نفسه المطعون بشرعيته على حل نفسه أو طرد احد أعضاءه .
وجاءت المادة الثامنة لترسخ لحزب البعث قيادة الدولة والمجتمع ولتحرم عمل الأحزاب بحصر وجودها وشرعيتها بكونها جزء من الجبهة الوطنية التقدمية الذي يكون فيها حزب البعث له الأغلبية الحكمية
وجاءت المواد 9 – 21 – 23 – 49 – لتعطي للمنظمات الشعبية المنبثقة عن حزب البعث والتابعة له حق تنفيذ السياسة العامة للحزب وتحرم المجتمع من تنظيم عمله الأهلي وجمعياته ومنظماته المستقلة وتربطه بها حصريا.
وغيرت مهام الجيش الوطني فأصبح جيشا عقائديا مهمته الدفاع عن السلطة وتحقيق أهدافها وليس عن الوطن حسب المادة 11 من الدستور .
هذا على صعيد الدستور أما في باقي جوانب المجتمع فقد بسطت الديكتاتورية أجنحتها أولا عبر إعلان حالة طوارئ دائمة امتدت لأكثر من ثمان وأربعون عاما ولم ترفع إلا بعد قيام الثورة .
ومنعت قيام الأحزاب والجمعيات الأهلية وحلّت النقابات وأعادت تشكيلها على أساس التابعية والدفاع عن السلطة وليس عن أعضاء النقابات مما جعلها مع المنظمات الشعبية الأخرى أدوات تحكم وقمع إضافية وسيطرت على الإعلام بشكل كامل وعلى السلطة القضائية بتعديل قانون مجلس القضاء الأعلى وجعل الأغلبية فيه للموظفين التابعين لوزير العدل وليس لقضاة الحكم ودمج النيابة العامة مع قضاء الحكم وجعلهم تابعين لوزير العدل .
ووضعن قانون انتخابات على أساس يتيح الهيمنة والسيطرة الكاملة على الانتخابات ونتائجها وعدم وجود جهة مستقلة تشرف على الانتخابات ووضعها تحت إشراف وزير الداخلية ولجان الانتخابات تكون من الموظفين التابعين للوزارات وقسمت الدوائر الانتخابية على أساس المحافظة لتعرقل دخول مستقلين ويكون باعها طويلا بتزوير النتائج كما ترغب.
ووضعت أجهزة الرقابة والتفتيش تحت وصاية وتصرف رئاسة مجلس الوزراء مما شجع الفساد بكل أنواعه وسبغ الحماية على الموظفين الفاسدين طالما هم يدينون بالولاء للسلطة ويدعمون وجودها .
ومنعت محاكمة رجال الجيش وعناصر الأمن والشرطة والجمارك إلا بعد الحصول على موافقة رئيسهم مما شجعهم على التمادي بارتكاب الجرائم دون محاسبة .
إذا أسست الديكتاتورية بسوريا بوجودها واستمراها بكل التشريعات الممكنة ومع أن التشريعات القانونية العادية التي أصدرتها ابتداءً من الدستور كانت كفيلة وحدها بتغطية وجود واستمرار الديكتاتورية إلا أن السلطة مع ذلك أبقت على إعلان حالة الطوارئ لتغطي نفسها بحالة عدم تطبيقها لقوانينها وتجاوزاتها على البيئة القانونية التي تستند إليها .

كيف نمنع نشوء الديكتاتورية؟

لنمنع نشوء ديكتاتوريات جديدة يتوجب البحث عن الركائز التي تعتمد عليها الديكتاتوريات لاستمرارها .
أول هذه الركائز هي نظريات أيديولوجية تترجمها بشعارات وأهداف كبرى تلامس مشاعر الشعوب وقضاياها الكبرى لقومية أو وطنية وحاجاته الملحة الداخلية تستخدم الديكتاتورية هذه الشعارات لتبرير وجودها ومحاولة حشد وتأييد شعبي وعسكري تستند إليهما لإضفاء شرعية على تجاوزاتها وارتكاباتها واستبدادها كمسألة العدالة الاجتماعية وإنصاف الطبقة الكادحة والفقيرة والتنمية وغيرها من الشعارات التي تلامس أحلام الطبقة الأوسع بالمجتمع . فالسطات التي جاءت تحت هذه الشعارات تحولت كلها لمجرد ديكتاتوريات لمصلحة مجموعة قليلة بالسلطة .
أو تتستر تحت ستار الإيديولوجية الدينية التي ترى بالدين هو الحلّ وتسمي نفسها مندوب الله على الأرض لفرض تعاليمه وأوامره وتطبيق شريعته وهذا النوع ينتج أسوأ وأشد الديكتاتوريات ظلامية وشراسة لأنها تستند إلى مرجع إلهي لا يمكن دحضه أو مخالفته تحت طائلة التكفير والردة والقتل , وغالبا هذه الديكتاتوريات لا تزول بسبب ثورات داخلية وإنما تحتاج إلى حروب خارجة تؤدي إلى هزيمة النظام وسقوطه وبالتالي تفتح بابا واسعا لإعادة بناء المجتمع على أسس جديدة .
كما هناك الإيديولوجيا القومية والوطنية التي تتلطى تحت شعارات الوحدة القومية ومحارية الاستعمار والامبريالية والاستقلال وسيادة القرار الوطني وغيرها من الشعارات الجوفاء. وهذه الشعارات هي الأكثر سهولة لأنها الأكثر غموضا وتستطيع الديكتاتوريات شطّها ومطّها حسب حاجتها بالإضافة غلى أنها الأكثر قبولا لأنها تدغدغ مشاعر كل مكونات الشعب وتقوم الديكتاتوريات من أجل ذلك بتضخيم دور وحجم العدو الخارجي المفترض وتأليف أساطير حول قدراته المؤامراتية ونفوذه وخطورته بل يمكن أن تقوم بخلق وصناعة أعداء وتزييف أعداء وهميين وافتراضين من أجل تبرير ممارساتها واستبدادها للحفاظ على المجتمع . وكما في حالة المرجعية الدينية تعتبر الديكتاتورية نفسها المرجعية الوطنية وتمارس التكفير الوطني اتهامات الخيانة والعمالة ومساعدة العدو الخارجي بحق المعارضين وإسكات المجتمع وإحكام السيطرة عليه .
وتحتاج الديكتاتوريات إلى ركيزة ثانية هي القوة العسكرية العقائدية التابعة لها مباشرة وبولاء مطلق تفرض بواسطتها بالقوة على المجتمع وتضبط حركته وتمنع بالاعتقال والتهديد والقتل أي محاولة للمعارضة بإيجاد طريق للتغيير . وإذا لم تتمكن من ترويض الجيش النظامي كاملا فهي دائما تلجأ لإنشاء مليشيات ومجموعات عقائدية تلتزم بالولاء المطلق لها وتلحقها بالجيش النظامي وتعطيها امتيازات مادية وقيادية عن سائر أفراد الجيش كما تقوم بتوسيع أجهزة الأمن بشكل سرطاني وتطلق يدها دون محاسبة للتنكيل بالمجتمع وحبس انفاسه .
والركيزة الثالثة هي الإعلام فالديكتاتوريات لا يمكن أن تعيش بفضاء إعلامي مفتوح ولا يمكن أن تسمح إلا بإعلام موجه واحد هو إعلامها الذي يطنب بمدحها ويمجد بطولاتها ويركز على إنجازاتها ويؤله رمزها ويبرر الأخطاء والتجاوزات ويضخم دور الأعداء ويروج لسياستها ويهاجم أي معارضة بتهم الكفر او الخيانة أو التبعية , ويدعم الشخصيات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التافهة والسطحية على حساب الأصالة والعراقة لمنع نشوء أي رموز خارج السيطرة حتى لو كانت على الصعيد الفني . بل يعمل على تحطيم أي احتمال لوجود مثل هذه الرموز أو القامات الثقافية لمنع قيام كيانات معنوية شعبية لها تحرمه من السيطرة الكاملة والمطلقة . ويمارس إعلام الديكتاتوريات التعتيم الكامل على الحقائق واختلاق الأكاذيب وتلفيق القصص على كل الأصعدة الداخلية والدولية .
وتقوم الركيزة الرابعة على ضمان السكوت اقليمي والدولي عن ممارسات الديكتاتورية . وتحافظ عادة الديكتاتوريات على مصالح الدول الإقليمية والدولية وتقدم ما يلزم بالخفاء لدعم هذه المصالح مهما كانت هذه الخدمات مخالفة للمبادئ التي تنادي بها علانية . وحتى تبرم بالسر صفقات مع أعداء الوطن طالما أن ذلك سيعزز وجودها ويديمها بالسطلة .
هذه هي الركائز الأربعة الأساسية التي تقف عليها الديكتاتوريات . فهل من الممكن توفرها في الوقت الحالي ؟
بكل بساطة لا أعتقد ذلك بل أعتقد أن زمن نشوء ووجود الديكتاتوريات ولّى إلى غير رجعة .
فالنظريات الإيديولوجية سقطت وتهاوت , فالإيديولوجيا الشيوعية سقطت مع انهيار الاتحاد السوفيتي وفشل النظام الشيوعي في تحقيق حياة مقبولة للشعوب وسقوط الأنظمة الشمولية يشكل عام . ومبدأ العدالة الاجتماعية والتنمية لم يعد حكرا على الأنظمة الاشتراكية اليسارية بل أصبحت مطلبا وشعارا لكل الأحزاب اليسارية واليمينية ,
وشعارات التحرير والاستقلال ومعاداة الامبريالية سقطت في ظل انحسار الاحتلال العسكري بالعالم ولعل القضية الفلسطينية هي المثال الوحيد الباقي نموذجا للاحتلال العسكري المباشر ومع ذلك لم يعد الخيار العسكري لدحر الاحتلال يتخذ الأولوية الأولى للعمل على إنهائه . ومع تعقد علاقات الدول لم تعد الأنظمة التي كانت تدعى امبريالية يمكن تجاهل الحاجة للتعاون معها بل الحاجة لمساعدتها أيضا.
وسقطت نظرية بناء الدول على أساس قومي أو عرقي وسقط معها العامل القومي في إثارة الشعوب وحشدها , فالتداخل العرقي الاقتصادي والجغرافي بين مختلف القوميات والعروق أصبح معه لا معنى ومن غير الممكن نشوء دول على أساس قومي أو عرقي بالإضافة الى أن تجارب الشعوب أثبتت أن الدول والشعارات القومية لم تجلب لشعوبها إلا القمع والفقر وويلات الحروب.
كما تراجعت وانحسرت نظرية بناء الدول على أساس ديني وسقطت نظرية الدين السياسي إن كان إسلاميا أو مسيحيا أو يهوديا وأكدت التجاري فشل هذه الأنظمة المبنية على أساس ديني في قيادة المجتمع نحو التطور والاندماج مع العالم وضرورة فصل الدين عن الدولة في مقدمة ضرورية للتعامل مع العالم وتحقيق التطور والتقدم وبالنسبة للمنطقة وخاصة موضوع الدين الإسلامي فإن نظرية الإسلام السياسي في انحدار وتراجع وليس نهوض واندفاع ..
والقوة العسكرية لم يعد من السهل تدجينها أو إنشاء ميليشيات جديدة قادرة على السيطرة المطلقة لتطور الأسلحة بشكل كبير والحاجة إلى مد يد العون للخارج في هذا الموضوع مهما بلغت قدرات الدول وحتى لو افترضنا وجود المساعدة الخارجية فإن تنوع مصادر السلاح يجعل من الصعب على ميليشيات ناشئة أن تفرض سيطرة كاملة في وجه مقاومة لمثل هذا العمل.
وفقدت الأحلام الديكتاتورية قدرتها على التحكم بالإعلام في ظل الثورة الهائلة بوسائل الاتصال والتواصل والتي كانت هبي العمل المؤثر والفاعل الذي أدى لقيام الثورات أساسا . وأصبح من المستحيل إغلاق الفضاء الإعلامي أو التحكم فيه ومن المستحيل قطع التواصل الاجتماعي والسياسي خارج إطار الدولة والنظام بين السياسيين والمثقفين والشعب وبين مكونات الشعب ولم يعد من الممكن طمس الحقائق والتعتيم على الواقع ولم يعد من الممكن خلق الأكاذيب والاستفراد بمكونات الشعب كل على حدة فالعالم اصبح قرية صغيرة والمعلومات متوفرة بكثرة وما أسهل ان تنشر مما يعني فقدان السيطرة والرقابة على حرية التعبير والنشر وهذا بحد ذاته مقتل الديكتاتوريات.
والركيزة الرابعة المتمثلة بالرضى والسكوت والدعم الدولي والإقليمي أصبح صعبا ومعقدا أولا بسبب فقدان الديكتاتوريات لدورها الإقليمي بالحفاظ على الاستقرار بل أصبحت مصدر لزعزعة الأمن والاستقرار . وثانيا بسبب تقدم مبادئ حقوق الإنسان الى الواجهة في المجالين المحلي والدولي وتعاظم دور منظمات وجمعيات وهيئات حقوق الإنسان في رسم السياسة الدولية العمل الكبير الذي تقوم فيه بفضح الانتهاكات الكبيرة لحقوق الإنسان والتأثير على هيئات الأمم المتحدة وإنشاء المحاكم الدولية لانتهاكات حقوق الإنسان كل ذلك أدى إلى انحسار التأييد للديكتاتوريات وإجبارها على تقديم تنازلات حقيقية والتخلي عن الوسائل القمعية المفضوحة لإدارة والسيطرة على المجتمع وإلزامها على الأقل بتغيير أدواتها ووسائلها وهذه التنازلات والخطوات هي المسامير الأخيرة بنعشها, هذا مع الديكتاتوريات الموجودة فكيف بالسماح بنشوء جديدة.
مما سبق يمكن أن نصل لاستنتاج بسيط أنه لا يمكن نشوء ديكتاتوريا جديدة لفقدان الركائز الأساسية التي يجب توفرها بالإضافة أن الشعوب التي تقوم بالثورة ضد الديكتاتورية لا يمكن أن تسمع بعودتها بأي لبوس كان, ولكن هدم إمكان نشوء ديكتاتورية جديدة لا يعني أبدا ولت يمنع من أن يحاول البعض ذلك , وهذه المحاولات وإن كانت محكومة بالفشل إلا أنها ستكلف الشعوب ثمنا إضافيا هي بغنى عنه وإن لم يكلفها دماء ودمار سيكلفها وفتا هي بأشد الحاجة غليه لتلحق بركب العالم وتعوض ما فاتها.

كيف نبني سوريا دون الخوف من ديكتاتورية جديدة

كما سبق وذكرت أن البنية القانونية هي الأرضية الأساسية لديمومة الديكتاتوريات وتمنحها الشرعية والثبات ومنع نشوء الديكتاتورية يبدا وينتهي بالبيئة القانونية التي تسمح أو لا تسمح بنشوء ديكتاتورية أو تغول أي أغلبية سياسية أو عرقية أو دينية على الأقليات الأخرى .
وهيكلة البنية القانونية هي بناء من أرضية وأربع أعمدة أساسية وسقف متناغمة ومتماسكة ومترابطة بشكل وثيق .
ويمكن أن نقول أن الأرضية هي المبادئ التي تمثل ضمير المجتمع والحامية لحقوق الأفراد ويمكن ان نطلق عليها القيم التوافقية العليا أو القيم المؤسسة وقد تقدمنا بالمركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية بورقة تتضمن هذه المبادئ والقيم العليا هي رؤية توافقية حول المستقبل تتفق فيه كل مكونات المجتمع على العيش تحت سقفها وتستلهم التاريخ والحاضر وتجارب الشعوب ليبني عليها أفق المستقبل القادم الذي نتمنى لأجيالنا العيش فيه, وهذه القيم لا تخضع لتجاذبات السياسة والإيديولوجيا بل تكون فوقها تؤسس لدولة المواطنة الحقّة ومظلة تحمي جميع المواطنين بالتساوي.
وبالتالي فإن هذه القيم لا تخضع لرغبات الأغلبية أو الأقلية مهما كان نوعها قومية كانت أو دينية أو سياسية أو جنسية بل وفقا لإرادة الجميع لبناء دولة للجميع , بحيث لا يمكن أن تطغى أية أغلبية كانت ومهما كان حجمها ونوعها على حقوق أي أقلية مهما صغر حجمها , ويشكل ضمانة للجميع بأن حقوقهم ستكون مكفولة مهما كان شكل وحجم الأغلبية التي ستكون بالسلطة .
وحيث أن أرقى ما وصل إليه الإنسان في قوانينه الوضعية والتي لقيت إجماعا وقبولا من كل العالم هو الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهدين الدوليين الملحقين به والخاصين بالحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بالإضافة إلى المساواة بين الجنسين وحقوق الطفل ومنع التعذيب وغيرها , فمن الضروري استلهام هذه المبادئ لبناء عقدنا الاجتماعي المؤسس لسوريا الجديدة وترجمتها إلى واقع يشكل رسالة طمأنة وأمان إلى جميع أبناء الوطن بأن مستقبلهم وأولادهم سيكون أفضل في وطن للجميع.
إن هذه المبادئ التي يتضمنها القيم العليا ستكون في مرتبة عليا وقواعد مؤسسة فوق دستورية ومرجعية لأي دستور أو قوانين تنظم حياة المجتمع والدولة في سوريا , لا يجوز مخالفتها لأنها تمثل ضمير المجتمع وتحمي حقوق أبنائه من أي انتهاك .

القيم التوافقية العليا
“القواعد المؤسسة للدستور والقوانين”

1- سوريا دولة ديمقراطية تعددية مدنية غنية بتنوعها القومي والديني والطائفي تحترم المواثيق الدولية وحقوق الإنسان , وهي وحدة جغرافية سياسية ذات سيادة كاملة تعتمد مبدأ المواطنة المتساوية وهي جزء من منظومة عربية وإقليمية ودولية ترسم سياستها بما يحقق المصالح العليا للشعب السوري ويصون وحدته وأمنه.
2- سوريا دولة قانون ومؤسسات ووطن لجميع أبنائها, جميع المواطنون متساوون أمام القانون ولهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات ولا يجوز التمييز بينهم بسبب الدين أو العرق أو القومية أو الجنس أو الرأي السياسي.
3- السيادة للشعب يمارسها عبر انتخابات ونزيهة وشفافة تعتمد على مبادئ المساواة والحرية والعمومية والاقتراع السرّي, ولجميع المواطنين حق المشاركة السياسية وتولي المناصب العامة دون تمييز والانتماء إلى المجموعات والجمعيات والأحزاب السياسية السلمية وتشكيل النقابات التي تعبر عن مصالحهم.
4- لجميع المواطنين حق الرأي والمعتقد والفكر والتعبير عن آرائهم علانية ولهم حق تداول المعلومات بحرية والتظاهر وممارسة شعائرهم بشكل سلمي ولا يجوز إجبار أي مواطن بالقسر على ممارسة أو الامتناع عن ممارسة فعل سلمي يتعلق برأيه أو اعتقاده ولا محاسبته أو التضييق عليه بسبب ذلك ولا يجوز الحض على الكراهية أو العنف بين الطوائف والأديان والقوميات أو النيل من الوحدة الوطنية.
5- لجميع المواطنين حق التمتع بالعدالة وحصوله عليها ضمن وقت معقول والتقاضي أما قاضيهم الطبيعي والسلطة القضائية يجب أن تتمتع بالاستقلالية التامة والحياد والنزاهة والعدالة باعتبارها الدرع الحامي والضامن للحريات العامة والحقوق وحق الدفاع حق مقدس لا يجوز انتهاكه وللجميع على قدر المساواة التمتع بالحماية القانونية وكل متهم برئ حتى تثبت إدانته.
6- الحياة حق مقدس وللجميع حق التمتع بالحرية والسلامة الشخصية ولا يجوز انتهاك الحياة الشخصية ولا يجوز توقيف أي شخص أو تحري مسكنه إلا بمذكرة قضائية كما لا يجوز تعريض أي شخص للتعذيب والإيذاء البدني أو المعنوي أو المعاملة الحاطّة بالكرامة الإنسانية
7- لكل المواطنين حق التنقل واختيار مكان العيش ولا يجوز إبعاد أي سوري عن بلده, ولا يجوز تحديد إقامته أو منعه من السفر إلا بقرار قضائي. ولجميع المواطنين الحق بالعمل وبحد أدنى من الأجر العادل بما يكفل له ولأسرته حياة كريمة وبظروف تضمن السلامة والصحة.
8- الثروات الطبيعية ملك للشعب لا يجوز التنازل عن ملكيتها, ولكل مواطن الحق بالتملك وتحمي الدولة الملكية المادية والفكرية, ولا يجوز نزع الملكية إلا للنفع العام ومقابل تعويض عادل.
9- التعليم والرعاية الطبية والضمان الاجتماعي والبيئة النظيفة حق لكل مواطن , والتعليم مجاني وإلزامي حتى انتهاء مرحلة التعليم الأساسي. وتعمل الدولة على تحرير المجتمع من الجوع والأمية وتوفير التنمية الاجتماعية والاقتصادية بشكل متوازن وعادل في كل المحافظات.
10- لكل طفل من أب أو أم سوريين الحق بالجنسية والنسب دون تمييز بسبب العرق أو الدين أو القومية أو الجنس وعلى الدولة بمساعدة الأسرة والمجتمع حماية حقوقه واتخاذ التدابير اللازمة لحمايته.
11- تقوم المحكمة الدستورية العليا المكونة من قضاة وخبراء قانون مستقلين بالرقابة على انسجام الدستور والقوانين الصادرة مع هذه المبادئ وعدم مخالفتها له.

وكأي عملية بناء يجب العمل أولا على تهيئة الأرض لتكون صلبة ومستوية ومستقرة لتحمل البناء دون أن تتصدع أو تتشقق . أي بمعنى قانوني وضع الأسس التي ستقوم عليها الدولة.
الدستور والمبادئ التي سيتبعها ويلتزم بها ومجموعة القوانين الأساسية هي ضمير المجتمع والمعبر عن جميع مكوناته . هذه الأرضية يجب أن تكون مستوية حتى تتوزع عملية البناء عليها بالتساوي دون أن يتحمل جزء من المجتمع عبئا أكبر من الآخرين , مما يستلزم معالجة الكتل الناتئة وردم الحفر والفواصل الموجودة / الأفكار المتطرفة يمينا وشمالا/ وتوسيع مساحة البناء ليشمل كل مكونات المجتمع حتى لا تترك أي مساحة أو مكون خارج عملية البناء.
ثانيا : يجب أن نضع مخططات البناء وشكله بحيث يكون معبرا عن كل المجتمع بتاريخه وحاضره ومستقبله ولا يقتصر على حقبة زمنية محددة ولا على مكون واحد أو أكثر من مكونات المجتمع بل يجب أن يتمثل فيه كل مكونات المجتمع وتاريخه . أن يكون أفقه للمستقبل ويستقرأ التطور الحضاري ولا يقيد نفسه بتاريخ أو حاضر يتحرك باستمرار . التعبير عن كل مكونات المجتمع وإعطاء الجميع مساحة تعبر عن تراثه وتاريخه ومشاركته بالبناء يجب أن يكون بشكل هارموني تناسقي وليس تنافري وفجّ بما يعطي غنى وجمالية للبناء ولا يؤثر على متانته .
إن أي محاولة لسيادة لون واحد أو شكل واحد أو ثقافة واحدة أو تاريخ واحد على البناء وتغييب باقي الاتجاهات تحت ذرائع أغلبية أو غيرها ربما يعطي انطباعا من الخارج بالوحدة ولكنه سيؤدي إلى تقسيم داخلي عشوائي وتنازعي ولن يؤدي إلى أن يعيش كل المجتمع في البناء الواحد بل سيلجأ كل مكون لإنشاء كانتونه الداخلي ومجتمعه المنعزل ويؤجج الأفكار المتطرفة مما يهدد بالمحصلة متانة البناء ككل وتزعزع أركانه لتكون هشة أمام أي زلزال.
من هذه الرؤية نبدأ ببناء بالدستور فهو القاعدة الأساسية والحامل للمجتمع والدولة والكيان . فهو القاعدة الأسمى بالدولة وواجب التطبيق قبل كل قانون لذلك يجب أن تكون حاملا مرتبطا بشكل عضوي مع الأعمدة الأربع الأساسية في البناء وهي قوانين الأحزاب والجمعيات والانتخابات والإعلام والسلطة القضائية
1- قانون الأحزاب والجمعيات هو الذي ينظم طريقة صنع وعمل التكتلات والتجمعات التي تعبر عن مصالح مكونات المجتمع وطريقة مشاركتها في صنع القرار والتأثير فيه وتحقيق مصالح الفئات والطبقات . وهنا يجب أن نراعي أن لا تكون هدفها وعملها يدفع للتقسيم والتنازع بل تنافسي ضمن أصول الديمقراطية والسلمية بما يحفظ ويدعم وحدة الكيان .
2- قانون الانتخابات وهو الآلية التي سيعبّر المجتمع من خلالها عن مصالح مكوناته وأهم أهدفها أن تكون قادرة على إيصال كل صوت بشكل حقيقي ومؤثر دون أن يتيح تغول أغلبية على صوت أقلية كما يجب أن يدفع ويشجع على أن يكون التنافس سياسي وليس بخلفيات أخرى دينية او طائفية أو قومية وأعتقد أنه بالتجربة أثبتت النظرية النسبية بالانتخابات والتي تعتمد على البرامج السياسية فاعليتها في توطيد لحمة المجتمعات وتخفيف من حدة التباينات . مع أنني ولطبيعة تاريخ سوريا مع الانتخابات حسب القائمة الفردية أفضل أن تكون فترة انتقالية بانتخابات مشتركة نصف عدد النواب بالقائمة الفردية والنصف الآخر بالنظرية النسبية لدورة واحدة أو دورتين انتخابيتين ومن ثم تكون بالنظرية النسبية بعد أن تكون قد نضجت الأحزاب والممارسة الديمقراطية.
3- قانون الإعلام وهو آلية التعبير للمجتمع كأفراد وأحزاب وجمعيات ومنظمات عن أنفسهم وهي السلطة الرابعة التي تصوب الأخطاء وتشكل صوت الرأي العام ويجب أن تكون حرة غير مقيدة لا بالتأسيس ولا بطريقة التعبير إلا بما يهدد وحدة الكيان ولا تكون الرقابة مسبقة بل لاحقة وعبر القضاء.
4- قانون السلطة القضائية وهو الأهم لأن القضاء هو السلطة الأساسية برأيي لأنه الدرع الحامي للمجتمع والكيان والحريات والحقوق من السلطة ومن بعض المجتمع نفسه . ويجب أن تتأسس على ثلاثة مبادئ هي الاستقلالية والنزاهة والحياد هذه الأقانيم الثلاثة هي التي تشكل مفهوم العدالة . وإصلاح القضاء والمؤسسة القضائية لإعادة الثقة بها هي المهمة الأهم والأولى برأيي في رسم مستقبل سوريا وهذا الإصلاح يتمثل بعدة خطوات أولها إعادة صياغة قانون السلطة القضائية بما يضمن استقلاله والفصل بين قضاة الحكم وقضاة النيابة وفصل عمل وزير العدل والسلطة التنفيذية عن عمل مجلس القضاء الأعلى وإعادة هيكلة القضاء بما يضمن توسعا جغرافيا وتخصصيا يكفل بإحقاق العدالة بوقت سريع وإعادة النظر بطريق تعيين القضاة وتأهيلهم. وإعادة تقييم القضاة الموجودين واستبعاد الفاسدين وغير الحياديين وتدعيم وضع القضاة الاجتماعي والاقتصادي لحمايتهم من الضغوط والفساد وتشكيل لجان قضائية تخصصية استثنائية لمرحلة مؤقتة للنظر بتظلمات المرحلة السابقة إن كان بما جرى بفترة الثورة أو بالقضايا القديمة التي شابها فساد كبير أو ظلم فاضح نتيجة التدخلات الأمنية . تفعيل دور لجان التفتيش القضائي والاستعانة بقضاة أجانب وعرب لتفادي الضغوط والمحسوبيات بالمحاسبة وخاصة بالمرحلة الأولى .
إن هذه النظرة السريعة على القوانين الأربعة الأساسية لا تغني بل تؤكد وجوب البحث بها تفصيليا كل على حدة والتي ستكون موضع بحث خاص ومناقشة بكل تأكيد .
الدستور
الدستور هو واجهة الدولة والمحدد الأساسي لكيانها ويشكل الصورة الأولى لظهورها أمام نفسها والعالم, وهو الذي يحدد طبيعة العلاقة بين المجتمع والدولة والسلطة ويحكم كل القوانين الأخرى بالدولة وحدد آلية عمل إداراتها ومؤسساتها والعلاقة بينها, وهو القانون الأسمى والواجب التطبيق قبل أي قانون آخر.
ويتم تقسيم الدستور إلى عدد من الأبواب والفصول التي تبحث كل هذه التفاصيل حسب ما يأتي
1- توصيف الدولة كجغرافيا سياسية وكيان وطبيعة وكيان سياسي وانتماء, وهنا نواجه عدة احتمالات أو تحديّات, منها ما هو ليس محلّ خلاف بأن سوريا جمهورية ووحدة الأراضي السورية كما هي الخارطة الجغرافية الآن.
ولكن هناك نقاط قد يثار فيها اختلاف كاسم الدولة والتي تعبر عن انتمائها بالنسبة للبعض كإضافة اسم العربية للاسم أو وجود فقرة تنص على هذا الانتماء وهو ما يثير حفيظة السوريين غير العرب وأنا أعتقد أن مسألة الانتماء هي مسألة سياسية تحددها الأغلبية السياسية التي في السلطة بوقت من الأوقات وليست نص دستوري أو بالاسم . فكثير من الدول العربية لا يوجد باسمها ما يدل على العربية ومع ذلك هي عضو بالجامعة العربية وتنتمي إلى المجموعة العربية سياسيا , وهناك من اسمه ونصوصه الدستورية تنص على ذلك ولكن عمليا هو غير منتمي سياسيا لهذه المجموعة وإن كان يمارس دورا فيها, وحيث إن مسألة الانتماء هي مسألة سياسية كما قلنا تحددها الأغلبية وحيث أن سوريا هي في وسط عربي محيط وهي بكل الأحوال مضطرة إن لم أقل هي منتمية فعليا وستتعامل مع الجوار بشكل ايجابي لمصلحة شعبها فمن الطبيعي أن يكون هناك نص على هذا الانتماء للمحيط والتاريخ العربي مع عدم تجاهل الانتماء الإقليمي والدولي أو على حسابهما بما يحقق مصالح الشعب.
كما هناك مسألة الدين للدولة كتشريع ولرئيس الجمهورية . وأعتقد أن الشرعة الاسلامية هي أكيد كدين لأغلبية سكان سوريا هي مصدر أساسي للتشريع وليس المصدر الأساسي بما يؤدي إلى أن تكون التشريعات منسجمة مع الشريعة من جهة ولا تفرض قوانين غير مقبولة من قبل فئة من المجتمع مهما كبرت أو صغرت . وتترك مجالا للمشرع ليعبّر عن كل مكونات المجتمع. أما بالنسبة لدين رئيس الجمهورية فأعتقد أنه من غير المنطقي ذكره ليس لأنه يكمن أن يسمح بتولي رئيس من غير الأغلبية المسلمة أو يحرم أحدا من غير الأغلبية ذلك فإن هذا لن يكون إذا لم تنتخبه هذه الأغلبية أساسا. بل لأن ذكر هذا الشرط سيحرم الأغلبية نفسها الحق بانتخاب من تراه مناسبا بغض النظر عن دينه . لذك فإن وجود هذا الشرط هو اجحاف وانتقاص من حقوق الأغلبية المسلمة قبل أن يكون انتقاصا من حقوق الأقلية.
وكذلك يمكن أن تثار مسألة النظام الرئاسي هل هو جمهوري برلماني أو رئاسي أو برلماني رئاسي .
أعتقد أن الجميع متفق على استبعاد النظام الرئاسي بما يعنيه من نشوء ديكتاتورية لم يعد أحد يريدها , وأنا أعتقد أن التجارب العالمية أثبت نجاعة النظام المشترك بشكل أكبر فالنظام البرلماني الذي تتحكم فيه الأغلبية البرلمانية بكل المفاصل من انتخاب رئيس الجمهورية المجرد من الصلاحيات إلى تعيين رئيس الحكومة والحكومة والرقابة عليها والتشريع عدا أنه يحيلنا إلى ديكتاتورية من نوع آخر فأنه وبالتجربة نظام غير مستقر سياسيا تتلاعب فيه الكتل السياسية بأمور البلد وأي تغيير في تحالفات الأحزاب لأي سبب يمكن أن يؤدي إلى تغيير الحكومة كلها . كما أن الرقابة على عمل الحكومة ستضعف كثيرا بسبب أن الأغلبية البرلمانية هي من عينها وبالتالي تكثر عمليات الفساد المغطاة برلمانيا وتزداد التشريعات لمصالح حزبية وليس وطنية . أما النظام البرلماني الرئاسي المشترك حيث ينتخب الرئيس من الشعب كما البرلمان . مع صلاحيات محددة بالدستور بحيث لا تطغى أو تتعدى أو تتجاوز صلاحيات البرلمان الذي هو المرجع الأول والممثل لاختيار الشعب فإنه يخلق تنافسية إيجابية بين السلطتين التشريعية والتنفيذية لمصلحة المجتمع ويحّد من الفساد ويفعّل الحياة السياسية والقرار الشعبي على عمل الحكومة . حيث أن تناوب انتخاب مجلس النواب ورئيس الجمهورية مباشرة يجعل المواطنين مشاركين بالرقابة وتصحيح المسارات خلال فترات متقاربة وهو امتحان سريع للبرامج السياسية يعرب فيه الناخبون عن رضاهم من عدمه عن أداء الأحزاب والممثلين الذين سبق أن اختاروهم.
2- تحديد الشكل الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للدولة , وأعتقد هنا أنه ليس هناك تحديات أمام الدستور بل خيارات ليس صعب تحديدها والاتفاق عليها فبالنسبة للموضوع الاقتصادي أعتقد أن النظرية الاشتراكية والاقتصاد المغلق أثبت عدم جدواها وأن الاقتصاد المنفتح مع الحفاظ على مبادئ العدالة الاجتماعية ودور الدولة بحماية الفئة الأفقر هو الحلّ الأنجع للدول . كما أن الثقافة المنفتحة للتعامل والأخذ من كل الثقافات هي حقيقة لم يعد من الممكن تجاهلها .
3- تحديد الحقوق والواجبات للدولة , وهنا يمكن أن نقول بأن موضوع الحقوق الأساسية للإنسان هي موضوع لا يقبل المناقشة والجدل وأن هذه الحقوق واحترامها هو مقياس حضارة أي دولة وكلما توسعت الدول بتطبيقها كلما كانت أكثر حضارية وتقدما وأعطت مواطنها ومجتمعها قوة ومناعة . أما بالنسبة لدور الدولة فأعتقد أن الغالبية مقتنعة بأن دور الدولة لا يتوجب أن يكون حياديا تجاه المجتمع بل متدخلا بحدود لا تؤثر على الحريات وعليها تأمين وحماية الحقوق الأساسية للإنسان من حق العمل والتعليم والحياة الكريمة والبيئة النظيفة والرأي والتعبير والمشاركة السياسية وغيرها من الحقوق والحفاظ على أمنه ووحدته .
4- تحديد طريق انتخاب ومدة ولاية مجلس النواب وسلطاته وكيفية ممارسة صلاحياته بالتشريع وآلية الرقابة على عمل الحكومة ودور الأحزاب السياسية بالمجلس وكيفية اتخاذ القرارات بأنواعها وإقرار القوانين ونفاذها وطرق الطعن بها. وعلاقته مع رئاسة الجمهورية والحكومة.
5- تحديد طريقة انتخاب رئيس الجمهورية ومدة ولايته وسلطاته وطريقة ممارسته سلطاته وحدودها وعلاقته بالحكومة ومجلس النواب.
6- الحكومة وطرق تشكيلها وممارسة عملها وسلطاتها ومحاسبتها والهيئات الرقابية المالية والعقدية على أعمالها.
7- السلطة القضائية ومجلس القضاء الأعلى وتشكيله ودورها وسلطاتها خاصة بما يخص رئيس الجمهورية والنواب .
8- المحكمة الدستورية العليا تشكيلها وصلاحياتها وكيفية القيام بدورها.
9- موضوع إدارة الأقاليم وتقسيم المحافظات وسلطات الإدارة المحلية ودورها وصلاحياتها , وهنا أعتقد بأن كلما ازدادت صلاحيات الإدارات المحلية وأعطيت هامش واسع للتحرك لخدمة مناطقها تحت إطار الدولة الواحدة كلما تجاوزنا مطبات مطلبية ليس للأقليات القومية أو الدينية فقط وإنما للمناطق الجغرافية التي عانت طويلا من التهميش والإهمال . وإن زيادة وتوسع الصلاحيات المحلية أثبت الواقع والتجربة أنها تزيد التزام المواطن بالوطن ولا تؤدي لابتعاده.
طرق إقرار الدستور وتعديله والنسبة المطلوبة لتعديل المواد وأعتقد أن معظم الدساتير الحديثة وضعت جزءا من مواد الدستور وخاصة المتعلقة بالحقوق الأساسية للإنسان وجغرافية الكيان وماهيته غير قابلة للتعديل بأي أغلبية كانت / لطفا مراجعة الدستور الألماني , ووثيقة الآباء المؤسسين لأمريكا . وموقع شعارات الثورة الفرنسية بالدستور الفرنسي
بالإضافة إلى أنه من غير الممكن نشوء ديكتاتورية جديدة فإنه يجب أن نقطع الطريق حتى على محاولة فرضها لنوفر على الوطن ثمنا إضافيا ووقتا يحتاجه الوطن لإعادة البناء للحجر والبشر.

المحامي أنور البني
رئيس المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية

اترك تعليقاً