الدراسات والأبحاث

عدم الإفلات من العقاب في سوريا محاكمة مرتكبي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في سوريا

المحامي إبراهيم محمد القاسم
كانون الأول 2014

مقدمة

أكثر من ثلاثة سنوات ونصف وما زالت المأساة السورية مستمرة في حصد المزيد من أرواح السوريين والمزيد من تدمير الممتلكات العامة والخاصة، والمزيد من المهجرين واللاجئين والنازحين والمعتقلين والجرحى، دون ان يلوح بالأفق أي بارقة أمل بوقف هذه المأساة في ظل عجز المجتمع الدولي وتقاعسه عن إجبار أطراف النزاع في سوريا على وقف القتال، والتدخلات الخارجية الواسعة في الشؤون السورية.
وما زال الشعب السوري يتعرض لأبشع الانتهاكات في حقوقه، سواء من قبل قوات النظام وأجهزته الأمنية والميلشيات التابعة له، أو من قبل مجموعات المعارضة المسلحة، كذلك من قبل ما يسمى بالمجموعات المتطرفة، وارتفع منسوب الانتهاكات لحقوق الانسان من قبل تلك الأطراف إلى مستوى لا يتصوره عقل، إبتداءً من إبادة عائلات بأكملها، واغتصاب منظم، وعمليات تعذيب وحشية ممنهجة واسعة النطاق، لاسيما في المعتقلات وأقبية المخابرات السورية والتي ترقى إلى مستوى جرائم الحرب، يضاف إليها إختفاء قسري لعشرات الآلاف من السوريين دون أن يُعرف عن مصيرهم شيئاً، ووصل الأمر الى حد استخدام الأسلحة الكيماوية المحرمة دولياً، والكثير الكثير من الجرائم التي مازالت تحدث يومياً في سوريا بالرغم من وجود أليات قانونية دولية للملاحقة والمحاكمة، إلا أنها معطلة وعاجزة عن ملاحقة مرتكبي تلك الانتهاكات بسبب غياب الإرادة الدولية وعدم الاتفاق بين الدول الكبرى لضمان تطبيق تلك الآليات بشكل يضمن عدم إفلات المرتكبين من العقاب، ما أدى الى تمادي هؤلاء المجرمين في غيّهم.
يهدف هذا البحث إلى طرح إمكانية ملاحقة مرتكبي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في سوريا ومحاكمتهم أمام المحاكم الوطنية أو الدولية والمعوقات التي يمكن ان تحول أو تعترض دون ذلك .
المبحث الأول – التوصيف القانوني لما يحدث في سوريا:
تؤكد معظم التقارير الصادرة عن المنظمات الحقوقية والإنسانية وقوع جرائم في سورية ترتقي لتشكل جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية، ففي 1772012 تم وصف النزاع في سوري بأنه نزاع مسلح غير دولي من قبل منظمة الصليب الأحمر الدولي، وبناء على ذلك فإنه يتم تطبيق المادة الثالثة المشتركة بين الاتفاقيات الأربع لمعاهدة جنيف لعام 1949، وهي تنص على أنه يمكن لمنظمة دولية مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر تقديم خدماتها لأفرقاء النزاع لا أن تفرضها بل تعرضها فإما أن تقبل أو أن ترفض.
وقال الناطق باسم اللجنة الدولية للصليب الأحمر، الكسيس هيب، لوكالة “فرانس برس :
إن وضع “النزاع المسلح غير الدولي ينطبق على ثلاث مناطق محددة من سوريا, لكن الآن وفي كل مرة تحصل فيها أعمال حربية يمكننا رؤية ظروف يمكن أن تحدد على أنها نزاع مسلح غير دولي”.
بتاريخ 2282011 أصدر مجلس حقوق الإنسان قراراً شُكلت بموجبه لجنة دولية للتحقيق حول سوريا، وانتظرت هذه اللجنة حتى تاريخ 2122013 للتحدث للمرة الأولى عن وجود أدلة عن ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في النزاع في سوريا، حيث قالت المفوضة العليا للأمم المتحدة لحقوق الإنسان “نافي بيلاي”: . وأضافت: .
وهكذا أضحى الحديث عن ارتكاب جرائم حرب وضد الإنسانية امراً واقعاً ومثبتاً بالأدلة في النزاع المسلح غير الدولي في سوريا، وهذا يقودنا للحديث عن ماهية هذه الجرائم وفقاً للقانون الدولي الإنساني .
المطلب الأول – الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان المرتكبة في سوريا في ظل القانون الجنائي الدولي :
أولاً – الجرائم ضد الإنسانية :
لا يوجد تعريف واحد للجرائم ضد الإنسانية ولكن نظام روما عرفها بأنها: “هي أي فعل من الأفعال المحظورة والمحددة في نظام روما متى ارتكبت في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين”.
وهي تشمل وفقاً للمادة 7 من نظام روما عدة جرائم منها جريمة القتل العمد، والإبادة، والاغتصاب، والعبودية الجنسية، والإبعاد أو النقل القسرى للسكان، وجريمةِ التفرقة العنصرية والأضطهار والاختفاء القسري والرق…الخ وهي جرائم معاقب عليها سواء في زمن الحرب أوالسلم.
ثالثاً- جريمة الحرب :
كان الاعتقاد السائد ان الحرب هي عمل مشروع لا يقيده إلا مصالح الدولة الخاصة في خوض هذه الحرب من عدمه وهي وسيلة من وسائل فض الخلافات والنزاعات ، وكان تقنين الحرب هدفه فقط تنظيمها دون تجريمها ومع الوقت بدأ المجتمع الدولي بتجريم بعض الأعمال الحربية ووضع قواعد قانونية لها في عدد من الاتفاقيات الدولية نذكر منها :
*إتفاقية باريس 1856 وإتفاقية جنيف 1864 وإتفاقيتي لاهاي 1899 و1907 وإتفاقيات جنيف الأربعة 1949 والبروتوكولين الإضافيين لإتفاقية جنيف1977.
وجريمة الحرب يمكن تعريفها بأنها كل فعل أو إمتناع عن فعل صادر عن أشخاص مدنية او عسكرية تنتمي لأحد أطراف النزاع (تقع في النزاعات) ضد أشخاص أوممتلكات افراد العدو العامة والخاصة إبان النزاع المسلح مع كون هذه الأفعال تشكل إنتهاكا صريحا لقوانين وأعراف الحرب وهذه القوانين قد تكون صريحة أو عرفية .
وتصنف جريمة الحرب وفق اتفاقيات جنيف والبروتوكولين الإضافيين والمادة 8 من نظام روما الأساسي إلى نوعين من الانتهاكات :
أ) الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف المؤرخة 12 آب/أغسطس 1949، وهي أي فعل ضد الأشخاص، أو الممتلكات الذين تحميهم أحكام اتفاقية جنيف ذات الصلة، أخطرها القتل العمد والتعذيب وإلحاق الأذى بالجسم او الصحة وإلحاق التدمير بالممتلكات والاستيلاء عليها دون وجود ضرورة عسكرية والإبعاد القسري.
ب‌) الانتهاكات الخطيرة الأخرى للقوانين والأعراف السارية على المنازعات الدولية المسلحة في النطاق الثابت للقانون الدولي.
ج ) في حالة وقوع نزاع مسلح غير ذي طابع دولي، الانتهاكات الجسيمة للمادة 2 المشتركة بين اتفاقيات جنيف الأربع المؤرخة في 12 آب/ أغسطس 1949، وهي أي من الأفعال التالية المرتكبة ضد أشخاص غير مشتركين اشتراكاً فعلياً في الأعمال الحربية,بما في ذلك أفراد القوات المسلحة الذين ألقوا سلاحهم وأولئك الذين أصبحوا عاجزين عن القتال بسبب المرض أو الإصابة أو الاحتجاز أو لأي سبب آخر :-
1 ” استعمال العنف ضد الحياة والأشخاص، وبخاصة القتل بجميع أنواعه والتشويه، والمعاملة القاسية، والتعذيب.
2 ” الاعتداء على كرامة الشخص، وبخاصة المعاملة المهينة والحاطة بالكرامة.
3 ” أخذ الرهائن.
4 ” إصدار أحكام وتنفيذ إعدامات دون وجود حكم سابق صادر عن محكمة مشكلة تشكيلاً نظامياً تكفل جميع الضمانات القضائية المعترف عموماً بأنه لا غنى عنها.
المطلب الثاني- جريمة الحرب والجرائم ضد الإنسانية في القانون السوري:
على الرغم من ان سوريا خلال فترة استعمارها والحروب التي خاضتها بعد الاستقلال شهدت ارتكاب العديد من المجازر فيها، إلا ان الدستور السوري والتشريعات السورية خلت من أية إشارة إلى مثل تلك الجرائم، ومن المستغرب اكثر ان سوريا وقعت وصادقت على العديد من الاتفاقيات الدولية ذات الصلة إلا أنها لم تضمنها في تشريعاتها الوطنية وتجاهلتها بشكل فعلي في قوانينها وبقيت حبراً على ورق، ولم يسجل تاريخ القضاء السوري منذ نشأته أية محاكمة لمرتكبي جرائم الحرب في سوريا.
ويأتي في مقدمة تلك الاتفاقيات التي وقعتها سوريا (اتفاقيات جنيف الأربعة) حيث كانت سوريا من أولى الدول الموقعة على اتفاقيات جنيف التي تعتبر لب القانون الدولي الإنساني، وذلك بتاريخ 12/8/1949 وصادقت عليها بتاريخ 2/11/1953 ، وعلى الرغم من مضي ستة عقود ونيف على ذلك إلا ان النظام السوري تجاوز كل هذه الاتفاقيات والأعراف الدولية وانتهكها بشكل فاضح في عدة مناسبات لعل أخطرها في التاريخ المعاصر مجزرة حماة 1982، ومجزرة الأكراد عام 2004، وأخيراً ما تشهده سوريا من مجازر بشكل يومي منذ آذار من عام 2011.
ومع تكرار الوعود الإصلاحية المتكررة سيما بعد اندلاع الثورة الشعبية السورية بتفعيل تلك الاتفاقيات وإعطائها الصيغة التنفيذية في الحياة القانونية السورية، إلا أن أن المشرع السوري لم يُضمن ولم يوائم هذه الاتفاقات الدولية التي صادق عليها بشكل واضح وصريح، في الدستور السوري الجديد لعام 2012 ، فبقيت المعاهدات والاتفاقيات الدولية بمرتبة ودرجة القوانين التي يقرها مجلس الشعب، دون أن يمنحها صفة السمو، كما هو معمول به في غالبية دول العالم، ويتضح ذلك من خلال المواد 75- 107-126 من الدستور السوري .
ولا يختلف الأمر في القوانين السورية فهي أيضاً لم تأتِ على ذكر الاتفاقيات والمعاهدات الدولية إلا بشكل عرضي، كما جاء في المادة 25 من القانون المدني السوري :
“لا تسري أحكام المواد السابقة إلا حيث لا يوجد نص على خلاف ذلك في قانون خاص، أو معاهدة دولية نافذة في سورية”.
والطامة الكبرى أن العراقيل والعقبات والإستثناءات دائماً ما كانت تنهض عند التطبيق الفعلي للإتفاقيات والمعاهدات الدولية فبقيت في مرتبة أدنى من التشريعات والقوانين السورية، كما جاء في نص المادة 11 من المرسوم التشريعي 43 لعام 2000 الخاص بتنظيم سوق التأمين في سوريا :.
ومن جهة أخرى نجد أن التحفظ على الاتفاقيات الدولية يؤدي إلى إفراغها من محتواها وبُعدها عن هدفها ومضمونها في حماية موضوع هذه المعاهدات، كالتحفظات السورية على اتفاقية القضاء على التمييز ضد ضد المرأة (السيداو)، حيث تم التصديق والانضمام إلى الاتفاقية من قبل سورية بالمرسوم رقم 330 تاريخ 259 2002 ، والذي تضمن عدة تحفظات على مواد تعتبر لب هذه الاتفاقية، كالمادة المادة رقم (2) والتي ضمت خمس فقرات نصت في مجملها على إلغاء أي تمييز دستوري أو قانوني أو تشريعي قد يكرس أي ممارسة تمييزية ضد المرأة.والفقرة الثانية من المادة (9) من ذات الاتفاقية : .وهذه المادة تتعارض مع قانون الجنسية السوري القائم على حق الدم والإقليم فيما يتعلق بمنح الجنسية والذي حصره القانون السوري بدم الرجل السوري فقط.
ورغم تأكيد القضاء السوري في بعض اجتهاداته على سمو الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، إلا أن ذلك بقي حبراً على ورق وبما يتناسب والنهج السياسي والسياسة العامة للنظام القائم ومصالحه، وبما يخالف ما استقرت عليه محكمة النقض السورية في العديد من القرارات والاجتهادات ومنها الحكم الصادر في العام 1980 الذي جاء فيه: ”
وإذا تعلق الأمر بحقوق الإنسان وحريته فإن السلطات السورية تتجاهل كلياً الاتفاقيات الدولية ذات الصلة حتى تلك التي صادقت عليها وتسبعدها تماماً كأنها لم تكن.

المبحث الثاني -آليات محاكمة مرتكبي الانتهاكات الجسيمة في سوريا :
لا تقتصر آليات محاكمة مرتكبي الانتهاكات في سوريا على آلية واحدة بل ثمة آليات عديدة نذكر منها ما يلي:
المطلب الأول- المحاكمة أمام القضاء الوطني السوري:
وفقاً لمبدأ التكامل المنصوص عليه في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (نظام روما) فإن الأولوية للنظر في جرائم مرتكبي الانتهاكات الجسيمة هي للمحاكم الجنائية الوطنية تم تليها المحاكم الجنائية الدولية، وهذا المبدأ يعتمد في معظم الأحوال على الجهود الوطنية والأنظمة والسلطات الوطنية للتعاون القضائي .
إيجابيات وسلبيات القضاء الوطني :
بينما تركز المحاكم الدولية في الواقع فقط على محاكمة كبار صناع القرار والرؤوساء والقادة والمسؤولين السياسيين والعسكريين، تأتي أهمية المحاكم الوطنية بإعتبار الإمكانية مفتوحة أمامها لإجراء محاكمات واسعة وشاملة لا تقتصر فقط على محاكمة كبار القادة السياسيين والعسكريين، بل تستطيع أن تحاكم جميع الأشخاص الذين ارتكبوا أفعالاً جنائية من مختلف المستويات.
ومن إيجابيات المحاكم الوطنية سرعة جراءاتها بالمقارنة مع مثيلاتها الدولية، كما أن نفقاتها أقل إرهاقاً على ميزانية الدولة، وذات أثر مباشر بالنسبة للضحايا وأهاليهم الذين تتاح لهم عن قرب مراقبة جلسات المحاكمات. ناهيك عن أن توفر الإجماع الوطني حول المحاكمات الوطنية يعطيها مصداقية أكثر لدى الضحايا ويُشعرهم بإمكانية تحقيق العدالة ويقوي موقف قضاة تلك المحاكم بإتجاه إصدار أحكام واقعية تلقى قبولاً شعبياً .
أما بالنسبة للسلبيات التي تحيط بهذه الآلية، فالصعوبة تكمن في مدى إمكانية محاكمة مرتكبي الانتهاكات، لا سيما المسؤولين الحكوميين، أمام القضاء الوطني، فهذا يتطلب عدم استمرار النظام السورى الحالي في سدة الحكم الذي لن يحاكم نفسه، مع علمنا أن النظام السوري قد حصن نفسه بقلاع من الأجهزة الأمنية إضافة إلى البيئة القانونية والهيئات القضائية التي تخضع لسيطرته كلياً والتي تُؤمن له الافلات من العقاب، بالإضافة إلى ان التشريعات الجنائية الوطنية لم تعترف ولم تتضمن نصوصاً صريحة او غير صريحة حتى عن ملاحقة مرتكبى تلك الانتهاكات، مما يجعل الأمر مستحيلاً تطبيقاً لمبدأ “لا جريمة ولا عقوبه إلا بنص”.
كما أن هذه التشريعات لا تعرف مبدأ المسؤولية القيادية سواء لرئيس الدولة أو للقادة العسكريين أو الأمنيين أو حتى المدنيين على الرغم من أن الرئيس هو أعلى سلطة في سوريا تشريعياً وتنفيذياً وحتى قضائياً بالإضافة إلى كونه القائد العام للجيش والقوات المسلحة كما نص على ذلك الدستور السوري الذي يحمي الرئيس من أية مسؤوليات عن عمله، فحسب المادة السابعة عشرة بعد المئة من الدستور السوري لعام 2012 : .
وحصَن النظام الحاكم أيضاً رؤوساء وعناصر الأجهزة الأمنية من الملاحقة القضائية أثناء ممارستهم لعملهم من خلال إصدار مراسيم تشريعية تمنع ملاحقتهم قضائياً، ومنها المرسوم رقم 14 لعام 1969 المتضمن إحداث إدارة المخابرات العامة والذي منح العاملين في إدارة المخابرات العامة حصانة ضد الملاحقة القانونية تجاه الجرائم التي يرتكبونها أثناء تأديتهم لعملهم إلا بإذن خاص من مدير إدارة المخابرات، وهو ما كرس سياسة الإفلات من العقاب، وفتح المنافذ مشرعة للخروج على القانون، وقضى نهائياً على مبدأ سيادة القانون .
وفيما يلي نص المادة 16 من المرسوم المذكور حرفياً : . وحتى لا يطلع المواطنون على مضمون المرسوم عمد النظام إلى النص بشكل حرفي على عدم نشره، حيث نصت المادة 30 منه : .
وبتاريخ 2551969 صدر المرسوم التشريعي رقم 549 سُمي بقانون التنظيمات الداخلية لإدارة أمن الدولة، نص في المادة 74 منه : .
وفي المادة 101 منه عمد النظام إلى منع نشره أيضاً : . وبتاريخ 3092008 صدر مرسوم تشريعي برقم /69/ قضى بتعديل قانون العقوبات العسكرية في سوريا، بحيث نصت مواد هذا المرسوم على منح قرار ملاحقة عناصر الشرطة والأمن السياسي والجمارك المتهمين بممارسة التعذيب، بالقيادة العامة للجيش والقوات المسلحة، رغم إنهم يتبعون إدارياً لوزارة الداخلية وليس للقيادة العامة للجيش والقوات المسلحة، مما يجعل صلاحية محاكمة هؤلاء العناصر للقضاء العسكري بعد أن كان للقضاء الجزائي العادي، حيث جاء فيه :
(( المادة (1): تضاف إلى آخر المادة /47/ من قانون العقوبات وأصول المحاكمات العسكرية الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 61 تاريخ 27/2/1950 وتعديلاته، الفقرة الآتي نصها:
آ – الجرائم المرتكبة من ضباط وصف وأفراد قوى الأمن الداخلي، وعناصر شعبة الأمن السياسي، وعناصر الضابطة الجمركية، بسبب تأدية المهام الموكلة إليهم.
ب- تصدر أوامر الملاحقة بحق ضباط وصف ضباط وأفراد قوى الأمن الداخلي وعناصر شعبة الأمن السياسي وعناصر الضابطة الجمركية بقرار من القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة، وفق أحكام المادة / 53 / من قانون العقوبات وأصول المحاكمات العسكرية وتعديلاته )).
كما يظهر للعيان بشكل واضح سلبيات أخرى للقضاء الوطني السوري، مما يجعله في حاجة ماسة لتعديل القوانين السورية لتشمل الجرائم الدولية، وهو أمر إن حدث يحتاج إلى وقت طويل وعمل شاق من قبل فقهاء القانون السوريين، الذين سيواجهون ضغطوطاً كبيرة من ضحايا الانتهاكات وذويهم ومنظمات المجتمع المدني في سبيل تحقيق العدالة لمجتمع منكوب بأسرع وقت، بالإضافة إلى أن القضاء الوطنى يفتقر إلى الكوادر القضائية والفنية القادرة على تطبيق القوانين الخاصة بمحاكمة مرتكبى جرائم الحرب، سيما وإن معظمهم تم تعيينهم من قبل النظام بشكل مباشر بموجب دراسات صادرة عن الأجهزة الأمنية.
ويضاف إلى السلبيات ضعف الناحية اللوجستية في القضاء السوري من حيث البنية التحتية، ومن الناحية الأمنية في تأمين محاكمات عادلة بعيداً عن أية ضغوطات أو تدخلات خارجية او داخلية، كما أن السلطة القضائية لا حول لها ولا قوة فهي تخضع بالكامل للسلطة التنفيذية فالرئيس السوري هو رئيس مجلس القضاء الأعلى وفقاً لأحكام المادة 133 من الدستور السوري لعام 2012، الذي له السلطة الإدارية للقضاء بما فيها صلاحيات تعيين القضاة وترقيتهم وتنقلاتهم، بموجب قانون السلطة القضائية المرسوم 98 لعام 1961 .
ومن سلبيات المحاكم الوطنية أيضاً، أنها قد تتعرض لضغوط مباشرة من أهالي الضحايا لتطبيق أشد العقوبات بأسرع وقت، مما قد يؤثر على سير المحاكمات والأحكام التي تصدر عنها، وتأتي عقوبة الإعدام في التشريعات السورية لتتناسب مع طبيعة التفكير الاجتماعي في مجتمع لا يزال يؤمن بالأخذ بالثأر كحل لتطبيق العدالة المفقودة نتيجة فقدان الثقة بمؤسسة القضاء، بينما تتصاعد الأصوات ولا سيما منظمات ونشطاء حقوق الإنسان المطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام.
ولتدارك بعض عيوب القضاء السوري الوطني المتمثلة (بنقص الخبرات والكوادر وانعدام التشريعات الجنائية الوطنية التى تجرم جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية)، يمكن الاستعانة بالخبرات والكوادر والكفاءات الدولية، سواء بإعادة تاهيل وتدريب القضاة السوريين ورفع مستوى كفاءتهم، أو بالإستعانة بخبراء قانويين لتقديم العون والمشورة القضائية في المحاكمات، كما حصل في محاكمة الرئيس العراقي السابق صدام حسين، عندما استعانت الحكومة العراقية بخبراء امريكيين ومن دول اخرى، لمساعدة الهيئات القضائية العراقية في محاكمة الرئيس العراقي ومساعديه والمسؤولين، حتى انها سمحت بتمثيل محاميين من دول اخرى للرئيس العراقي والدفاع عنه في محاولة لتحقيق شيء من المحاكمة العادلة وإن كانت شكلية، وهذا ما يقودنا للحديث عن محكمة مختلطة.
المطلب الثاني – الآليات الدولية أو ذات الطابع الدولي :
أولاً–أمام محاكم دولية خاصة او محاكم ذات طابع دولي :
سبق لمجلس الأمن أن أصدر قرارات بتشكيل محاكم دولية خاصة لمرتكبي الجرائم الدولية التي من شأنها تهديد السلم والأمن الدوليين على غرار محكمتي يوغسلافيا في العام 1993، وراوندا في العام 1994، والجرائم التي ارتكبت بحق الشعب السوري ولا تزال, هي بكل تأكيد تصنف بأنها تشكل تهديداً للسم والأمن الدوليين, بكافة المعايير التي يمكن مراعاتها في هذه الحالات، مما يقتضي تدخل المجتمع الدولي لتشكيل محكمة جنائية دولية خاصة، مثل محكمة يوغسلافيا لعام 1993 ومحكمة رواندا لعام 1994، وهذه المحاكم الدولية الخاصة يكون كل قضاتها من دول غير الدولة التي ارتكبت فيها الجرائم الدولية، وتكون مرجعيتها القانون الإنساني الدولي ولها كادر كامل ومهمة محددة لا تتجاوزها.
ثانياً- إنشاء محكمة دولية أو محكمة وطنية خاصة (المحاكم المختلطة) بملاحقة كبار مرتكبي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان:
بالوقت نفسه، يمكن لمجلس الأمن تشكيل محكمة جنائية ذات طابع دولي لمحاكمة مرتكبي جرائم الحرب في سوريا، كما حدث في حالة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، حيث كان الحل بإنشاء محكمة خاصة لمحاكمة قتلة الحريري تتكون من قضاة دوليين ومحليين، لها إجراءات معينة، في سابقة تحدث للمرة الأولى في تاريخ ما يمكن تسميته القضاء الجنائي الدولي لملاحقة مرتكبي جرائم الحرب.
ونتيجة التجاذب السياسي الحاصل في لبنان والمنطقة، ولكون المحكمة تشكلت بقرار من مجلس الأمن تحت ضغوطات سياسية، نظر معظم اللبنانيين إليها بإعتبارها محكمة سياسية انتقائية اختارت جريمة اغتيال واحدة لتنظر فيها في بلد شهد العديد من الاغتيالات السياسية، مما كرس قناعة لدى اللبنانيين بأن سياسة الإفلات من العقاب هي الحاكمة في لبنان، ومع مضي إجراءاتها بدأت الغالبية من متابعيها يقرون بأنها ليست محكمة سياسية بل قضائية.
جاء في تقرير لمنظمة العفو الدولية :
(( تشكل “لجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة” ومعها “المحكمة الخاصة بلبنان” تحولاً كبيراً فيما يتعلق بنمط الإفلات من العقاب الذي ساد في لبنان لفترة طويلة من الزمن، بيد أنهما لا يشكلان وحدهما رداً كافياً، فما لم ترافقهما تدابير أخرى، ستظل هناك مجازفة بأن ينظر إليهما على أنهما مجرد أداة سياسية انتقائية، وستفتقران إلى المصداقية والثقة العامة اللتين ينبغي أن تتمتعا بهما إذا ما أريد لهما أن تمثلا نقلة نوعية حقاً نحو احترام أكبر لحكم القانون في لبنان.
ومع مرور الوقت، يصبح من المُلح على نحو متزايد أن تقر الحكومة اللبنانية تدابير تكميلية تعالج إرث الانتهاكات الجسيمة السابقة الأخرى لحقوق الإنسان، وأن تقر كذلك أنظمة للتصدي للانتهاكات الراهنة، فإذا ما تركت المحكمة الدولية لشأن سبيلها لتسيِّر العدالة على نحو انتقائي، ثمة خطر حقيقي في أن يؤدي ذلك إلى تفاقم الانقسام السياسي داخل لبنان ويساعد على فتح جراح الماضي )) .

فرضية طرحت غير قابلة للتنفيذ :
بما أن النظام السوري القائم الان غير موقع على اتفاقية نظام روما الأساسي، ومن غير المتوقع أن يفعل النظام ذلك بأي حال من الأحوال، ولتدارك أمر الفيتو الروسي والصيني في مجلس الأمن، يعتقد البعض أن هناك وميض ضوء للبدء في محاكمة ومحاسبة مجرمي الحرب، وذلك من خلال الاعتراف بالإئتلاف السوري المعارض كممثل شرعي ووحيد للشعب السوري، وبعد ذلك يقوم الإئتلاف بطلب وضع الحالة السورية تحت تصرف المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية في حال تأخر التوقيع على الاتفاقية بشكل مباشر.
ولتدارك الاختصاص الزمني للمحكمة الجنائية الدولية من تاريخ التوقيع على اتفاقية نظام روما الأساسي، يمكن لحكومة المعارضة أن تطلب بشكل مباشر من المحكمة الجنائية الدولية النظر في الجرائم المرتكبة في سوريا منذ تاريخ نفاذ اتفاقية روما بناء على المادة 12 فقرة 3 من نظام روما، ولكن ذلك يتطلب اعتراف المجتمع الدولي بمشروعية الحكومة وتمثيل للشعب والدولة السورية من قبل المعارضضة السورية، وهذا ما لم يحصل لحد الآن.
وبالرجوع إلى ميثاق الأمم المتحدة نجد أنه من الصعوبة بمكان تحقق الاعتراف بالائتلاف الوطني كممثل شرعي وحيد للشعب السوري، فلا بد في المرحلة الاولى من إصدار توصية من مجلس الامن التابع للامم المتحدة للاعتراف بهذا الائتلاف، تحصل على موافقة 9 اعضاء من اعضاء مجلس الأمن دون استخدام حق الفيتو، وفي هذه الحالة أي توصية حتى وان حازت على اغلبية الاصوات 9 اصوات واذا نجح القرار دون ان تستخدم دولة ما حق الفيتو يتم تمريره للجمعية العمومية للتصويت عليه بأغلبية الثلثين تلك الاغلبية الضرورية لحصول دولة ما على العضوية الكاملة في الهيئة الدولية، وطبعاً في ظل الموقف الروسي والصيني الداعمين للنظام السوري دوماً لن يتحقق ذلك أبداً .
ثالثاً – اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية :
من الرجوع إلى المادة 11 من نظام روما الأساسي، نجد أن المحكمة الجنائية الدولية لا تنظر أبداً في الجرائم التي وقعت قبل نفاذ النظام الأساسي لها، كما ان هذه المحكمة لا تمارس صلاحياتها إلا فيما يتعلق بالجرائم التي ترتكب بعد ان تصبح الدولة طرفاً في هذه المحكمة، ويضاف إلى ذلك الدولة التي وقع في إقليمها الجريمة قيد المحاكمة أو دولة تسجيل السفينة أو الطائرة إذا كانت الجريمة قد ارتكبت على متن سفينة أو طائرة، وأيضاً الدولة التي يكون الشخص المتهم بالجريمة أحد رعاياها، ولكن يمكن لدولة غير موقعة على هذا النظام أن تطلب من المحكمة الجنائية الدولية النظر في الجرائم الواقعة على أراضيها(المادة 12). كما تنظر المحكمة بالجرائم المحالة إليها من قبل دولة طرف في أية حالة يبدو فيها أن جريمة أو أكثر من الجرائم الداخلة في اختصاص المحكمة قد ارتكبت وأن تطلب إلى المدعي العام التحقيق في حالة يبدو فيها ان جريمة أو اكثر قد ارتكبت.
كما تُلزم المحكمة بالنظر في الإحالة إلى المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية فيما يبدو ان جريمة أو أكثر ارتكبت، بموجب إحالة مجلس الأمن الدولي طبقا للمادة ( 13/ب)، وفق الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، إن هذا المقتضى القانونى هو الذى تم إعماله عام 2011 في الحالة الليبية عندما اتخذ مجلس الأمن القرار رقم (1973) فى مارس 2011 الذي قضى بإحالة الحالة فى ليبيا إلى المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية، ويحدث ذلك أيضاً في الحالة التي يبدو فيها أن هناك تهديدا للسلام، أو خرقاً للسلام أو عملا عدوانياً.
وفي حالة استخدام الفيتو يمكن اللجوء الى الاتحاد من أجل السلم، وذلك وفقاً للقرار المؤرخ في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 1950 بشأن “الاتحاد من أجل السلام”- (Uniting For Peace Resolution) – [القرار 377 (د – 5)] ، حيث أنه في حال عجز مجلس الأمن عن التصرف، نتيجة لتصويت أحد أعضائه الدائمين تصويتاً سلبياً، يجوز للجمعية العامة عندئذ التصرف. ويمكن للجمعية العامة أن تنظر في الأمر بهدف رفع توصيات إلى الأعضاء لاتخاذ تدابير جماعية لصون السلم والأمن الدوليين أواستعادتهما، وقد ضغطت الولايات المتحدة الأمريكية في ذلك الوقت لإيجاد على هذا المبدأ للتدخل في الحرب الكورية.
ومنذ تأسيس الهيئة العامة للأمم المتحدة تم اللجوء إلى هذا المبدأ في ثلاثة حالات،ولكنه لم يطبق بشكل فعلي إلا في حالة تشكيل قوة الطوارئ الأولى التابعة للأمم المتحدة في الشرق الأوسط عقب العدوان الثلاثي على مصر 1956 حيث لعب قرار الجمعية العامة رقم 377 دورا مؤثرا وناجحا في إدانة دول العدوان الثلاثي على مصر وسحب قواتهم من الأراضي المصرية.
وفي حالة تدخل حلف وارسو في هنغاريا 1958 بقيت القرارت الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بموجب هذا المبدأ،على الورق ولم يطبق منها شيئ.
وتم اللجوء إلى هذه المبدأ للنظر في حالة جدار الفصل العنصري الفاصل في فلسطين حيث تم الطلب من محكمة العدل الدولية 2003 إعطاء رأيها الاستشاري في هذا الجدار العنصري اعتماداً على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة (د إ ط – 10/14) تاريخ 12/12/2003، وبقي الأمر ضمن الرأي الاسشتاري فقط.

إيجابيات وسلبيات المحكمة الجنائية الدولية :
من إيجابيات هذه المحكمة الجنائية الدولية أنها تكون بعيدة عن الضغوطات الشعبية والأمنية وضغوطات الضحايا أو ذويهم بعكس المحاكم الوطنية السورية، كما أن القضاة فيها ذوي خبرة في العمل على هذه النوع من الجرائم وهم حياديون، يساعدهم بذلك فريق عمل متكامل، مع امكانيات مادية كبيرة وبنية تحتية مهمة تساعدهم في عملهم، في ظل وجود تشريعات قانونية دولية تجرم هذه الانتهاكات بشكل محدد. وإن إجراءاتها البطيئة نسبياً تجعلها محاكمات دقيقة وبعيدة نسبياً عن بطلان الاجراءات وانتهاك حقوق المتهمين في الدفاع والتمثيل الصحيح بالمقارنة مع مثيلاتها الوطنية، وإن عدم وجود تطبيق الإعدام في قرارات هذه المحكمة يتوافق مع القوانين الدولية وشرعة حقوق الإنسان.
ونفس الإيجابيات يمكن أخذها مأخذاً سلبياً على هذه المحكمة من حيث بعدها عن الضحايا ومكان ارتكاب الانتهاكات وبطئ إجراءاتها وإرتفاع تكاليفها المادية.

– رابعاً- الاختصاص العالمي للمحاكم الوطنية :
بموجب اتفاقيات جنيف الأربعة واتفاقيات مناهضة التعذيب والإبادة الجماعية وغيرهم من التفاقيات الدولية، فيجب على الدول ملاحقة المتهمين بإرتكاب الانتهاكات الجسيمة ومحاكمتهم بغض النظر عن جنسيتهم أو تسليمهم لطرف معني بمحاكمتهم، وأكد هذا المبدأ المادة (861) من البروتوكول الأول الملحق لاتفاقيات جنيف الأربعة التي طالبت الدول بقمع الانتهاكات الجسيمة واتخاذ ما يلزم لمنع كافة الانتهاكات لاتفاقيات جنيف، وهذا المبدأ يقوم على وجود التزام دولي بمحاكمة مجرمي الحرب من مواطنيها، وفي حال امتناعها يحق لأي من الدول الأعضاء والدول المعنية أو للمحكمة الجنائية الدولية محاكمة هؤلاء المجرمين على أراضيها بموجب القوانين المحلية لديها، حتى لو كانوا من رعايا دول اخرى ولا يحملون جنسية البلد الذي ينوي محاكمته.

.

بالنسبة للسوريين رغم أن التشريعات السورية لا تسمح بإزدواج الجنسية، إلا أن الأمر الواقع شيء آخر فيوجد العديد من السوريين مزدوجي الجنسية، كبعض الجنسيات الأوربية كالألمانية والسويدية وحتى الأمريكية والكندية ولكن أكثرهم يحملون جنسية دول أمريكا الجنوبية كالبرازيل والأرجنتين، وهم كاملو المواطنة فيها حتى أن أن “كارلوس منعم” السوري الأصل أصبح رئيساً للأرجنتين لمدة عشر سنوات ابتداءً من عام 1989.

وفي عام2000قُدر عدد المغتربين السوريين حول العالم ب981000 دون التطرق للسوريين الموجودين في أمريكا الجنوبية، وذلك وفق تقرير صادر عنEuropean Survey of Information Society Projects and Actions ، وتحدثت وزارة الخارجية والمغتربين السورية في دراسة أجرتها عام 2012 عن أرقام أكبر بكثير مما ورد في هذا التقرير, وبذلك من الممكن اللجوء لمحاكم الدول التي تاخذ بالولاية العالمية لقضائها مثل سويسرا وبريطانيا وإسبانيا والمانيا وسويسرا، ولكن للأسف معظم هذه الدول عدلت من قوانينها بعد إقامة الدعوى على “أرييل شارون” عام 2000، ففي بلجيكا حيث أصبحت قوانينها تشترط وجود المشتبه بهم أو المتهمين وبعضها توقع وجودهم على أراضيها لإمكانية رفع الدعوى، ولكن لا يمكن توقيف المشتبه به اذا كان ضيفا رسميا للحكومة أو عاملاً في إحدى المنظمات الدولية الموجودة، وفي إسبانيا أكّدت المحاكم بانه لا حصانة لمرتكبي الجرائم الدولية ولكن يشترط وجود المشتبه به في أسبانيا أو ضرورة أن يكون الضحايا من الرعايا الأسبانيين، كذلك اعتبرت بريطانيا وجود المشتبه به في المملكة المتحدة أو توقع وجوده فيها هو أمر ضروري لاستصدار أمر قضائي بالقبض عليه أو ملاحقته قضائيا وهذا الأمر يعود تقديره للقاضي.على وعلى الرغم من ألمانيا لم تشترط ذلك إلا انها قيدت الموضوع بأن لا تكون القضية المعنية قيد البحث والتحقيق من قِبل أية محكمة أو هيئة قانونية أخرى، كما أنه لا يجوز ممارسة الولاية القضائية العالمية ضد الأشخاص الموجودين في ألمانيا بناء على دعوة من الحكومة أي أن الحصانة الممنوحة لهم تؤدي إلى عدم توقيفهم، وفي سويسرا اشترط القانون الجنائي السويسري للنظر في هذه الجرائم بأنّ يكون العمل المُرتكب مجرّم في كل من سويسرا والدولة التي وقع فيها (مبدأ التجريم المزدوج) بالإضفة إلى اشتراط وجوده على الأراضي السويسرية .

خاتمة

وبناء على ما سبق نجد ان الالتزام الدولي بمحاكمة مرتكبي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في سوريا لا يمكن التملص منه او الالتفات عن تحقيقه، ولكن ما يحول دون ذلك حتى الآن هو غياب الإرادة السياسية الدولية، التي ان توفرت لن يكون باستطاعة مرتكبي تلك الانتهاكات الإفلات من العقاب مهما كانت حججهم وأحجامهم، سيما المسؤولين الحكوميين منهم، وحتى الدفع بالصفة الرسمية للرئيس السوري وقادة نظامه لن يكون له أهمية عند محاكمتهم لنفى مسئوليتهم عن ارتكاب الجرائم الدولية وإفلاتهم من العقاب، فالمسئولية الجنائية تسند لرئيس الدولة الذى يمثل قمة هرم التنظيم السياسى للدولة، ومسئوليته مع باقي المسؤولين الحكوميين تُبنى على أساس أن وضعهم
الوظيفي يمكنهم ممارسة صلاحيات واسعة تخولهم السيطرة على سياسة الدولة وبالتالي إعطاء قرارات خلاصتها ارتكاب جرائم حرب.

ومنذ بدء العمل بالمحاكم الجنائية الدولية في محاكمات نورنبرج وحتى تاريخه استقر الوضع على رفض الدفع بالصفة الرسمية لرئيس الدولة والمسؤولين الحكوميين، ولكن ما يمكن ان يشكل تهديداً لهذا المبدأ هو الاتفاقات والتسويات السياسية على حساب الضحايا كما حدث في اليمن بمنح الرئيس اليمني علي عبد الله صالح ومساعديه العفو والحصانة الشاملة من أي ملاحقة قضائية بسبب الجرائم التي ارتكبوها مستهدفين فيها المتظاهرين اليمنيين السلميين علم 2011.
ومثل هذا العفو يشكل انتهاكاً صارخاً لتحقيق العدالة وضمان النزاهة والحيادية للقضاء ومحاسبة مرتكبي جرائم الحرب وتعويض الضحايا وردع الجناة والمسؤولين الحكوميين في الدول عن ارتكاب جرائم الحرب وهو يمثل سابقة ترسخ الإفلات من العقاب.
إن الجرائم الدولية المرتكبة في سوريا تمس الإنسانية كلها، ولكن تراخي المجتمع الدولي في ملاحقة مرتكبيها حتى الآن أدى إلى فقدان الشعب السوري ثقته بالمجتمع الدولي ويأسه من محاكمة مرتكبي تلك الجرائم، مما كان له دوراً سلبياً في انتشار السلاح وتفاقم العنف أكثر وأكثر، وهذا الشعور مع الوقت سينتقل للشعوب الأخرى، وسيكون له دور سلبي بفقدانها أيضاً الثقة بالنظام الدولي بأسره والقضائي الدولي خاصة ومبادئ القانون الدولي، وسيخل بشكل مباشر بمبدأ العدالة والمساواة في سيادة الدول وخضوعها للقوانين والأعراف الدولية، ولكن مع عدم سقوط هذه الجرائم والانتهاكات بالتقادم يبقى الأمل بمحاسبة جميع هؤلاء المجرمين وإن طال الوقت , وأكبر دليل على ذلك محاكمة ديكتاتور تشيلي بينوتشيه.

اترك تعليقاً