أخبار المحاكماتمحكمة كوبلنتز

مرافعة المحامي أندرياس شولتز

لونا وطفة

بتاريخ 15/12/2021، تقدَّم السيد المحامي أندرياس شولز ليقرأ مرافعته الأخيرة والتي قال أنها من أجل أحد موكليه، عرَّف عنه بقوله: “لقد كان أحد المحظوظين الذين أتيح لهم مخرج جانبي من الجحيم بعد بضعة أيام، تحديداً عشرة أيام. بمقارنة سيريالية مع الضحايا الآخرين، الذين عانوا بطريقة أسوأ. أعتقد ربما أن موكلي حظي بملائكة رحمة”. موكله يعلم الآن كما قال، بأنه يتعامل مع بيروقراطية باردة في ألمانيا، ولكنه بالتأكيد لم يعد تحت رحمة بلدٍ لا يتمتع بالحقوق والقانون.

تحدث المحامي بعد ذلك عن بعض صعوبات البيروقراطية التي يعاني منها موكله في ألمانيا، مثلاً تسجيل مولوده الجديد في ألمانيا وهو يحمل اسم الأب كما هو معروف في سوريا، والذي لم يستطع فعله في مشفى التوليد لأن الموظف لم يفهم ذلك، وتم تسجيل الطفل على اسم والدته بالفعل. بسبب أزمة كورونا لم يكن من السهل الانتهاء بسرعة من عملية تغيير الاسم. خلال أسبوعين من قدوم المولود الجديد، كان يجب أن يقدم “المولود” طلباً للجوء موضحاً أسبابه فيه وذلك حتى لا يتم ترحيله قسرياً، ولأن المولود، كما قال السيد شولز، لن يتمكن من كتابة الطلب بنفسه بسبب صِغر سنه، كان لابد من توكيل محامٍ له!.

استطاع المحامي ووالد الطفل “موكل السيد شولز” من حل هاتين المشكلتين، ويمكن وصف ذلك على أنه بداية ديناميكية في الحياة كما أكد.

بعد هذه المقدمة قال السيد شولز: “والآن أصل إلى ما دفعني لدراسة السياق التاريخي لـ الكرسي الألماني، هيكلية عمل المخابرات السورية والإضاءة على إدانة المتهم”. وأكد أنه بات معروفاً الآن كيف يعمل “الكرسي الألماني” كأداة للتعذيب، ولكن من أين جاء هذا الاسم باللغة العربية؟

ليجيب عن هذا السؤال، قال السيد شولز: “المصادر غامضة، البعض يقول أن النازيين جلبوه إلى سوريا، والبعض الآخر يرى أن وزارة أمن الدولة في جمهورية ألمانيا الديمقراطية السابقة “DDR” جعلت أسلوب التعذيب هذا متاحاً لمجموعة كبيرة من المستخدمين له والمهتمين ممن ينتمون لأجهزة المخابرات السورية، كلاهما من المرجح أن يكون صحيحاً!”.

ولتأكيد هذه الفكرة تطرَّق السيد شولز إلى الشخص الذي عُرف بإسم الدكتور جورج فيشر، بينما بالحقيقة كان يدعى أولويس برونر أحد أهم موظفي أدولف إيخمان ولقبه كان “الكلب البوليسي” ومسؤول بشكل مشترك عن مقتل 128500 يهودي وكان على قائمة المطلوبين.

سافر برونر إلى سوريا وسرعان ما انضم إلى المخابرات السورية كأخصائي تعذيب! وعندما أصبح حافظ الأسد وزيراً للدفاع، أدرك العقيد عبد الحميد السراج القيمة الجوهرية لبرونر وفكَّر بأنه يجب أن يكون على اتصال بالرئيس المستقبلي*.

عام 1971 أنشأ حافظ الأسد، بمساعدة برونر، جهازاً للقمع لضمان أن احتفاظ حزب البعث والعلويين بالسلطة. بسبب تباهيه بعلاقته الوثيقة مع أدولف هتلر، استطاع برونر أن يتقدم لمنصب المستشار الرئاسي لحافظ الأسد، وقام بتدريب موظفي المخابرات واختبار أساليب التعذيب لاستخدامها ضد معارضي الأسد، وبدأ مهمته الاستراتيجية كمستشار للرئيس حافظ الأسد في منطقة وادي بردى، قاعدة مخابرات متخصصة في التعذيب!.

في المقابل، حصل برونر على حماية من الاضطهاد ومنزل في الحي الدبلوماسي بدمشق مع حراسة خاصة. بعد خلاف مع حافظ الأسد، أخرجه الأخير من اللعبة كمختص في مجال التعذيب. أنهى برونر حياته عن عمر يناهز 90 عاماً عام 2001 في أحد سجون التعذيب التي ساعد في إقامتها بنفسه، ويُشاع أنها كانت زنزانة في فرع الخطيب/251.

من جهة أخرى، أكد السيد شولز أن جمهورية ألمانيا الديمقراطية “DDR” كانت تستعد لدعم حزب البعث وأجهزة الأمن السوري في منتصف الستينات في النضال ضد الإمبريالية وإسرائيل وبالتالي دعم عمل برونر في التعذيب كأداة سلطة وتحكم.

وبعد عدة أمثلة أخرى ذكرها المحامي السيد شولز لتوضيح طبيعة العلافة آنذاك بين جمهورية ألمانيا الديمقراطية وأجهزة المخابرات والدولة السورية خاصة في مرحلة الثمانينيات، ووجود مكان يُعتبر نظير الفرع 251 في ألمانيا الشرقية، كلاهما خدم غاية واحدة فقط: محاربة القوى المعادية بكل الوسائل والإمكانيات، بمعنى “التعذيب كمصلحة وطنية!” وبأن تسميات الأفرع الأمنية في سوريا كـ 251، أو 285 وحتى القسم 40، ليسوا سوى انعاكساً واضحاً لتصميم وزارة أمن الدولة في جمهورية ألمانيا الديمقراطية آنذاك، عاد إلى المتهم وعلاقته بالكرسي الألماني. قال السيد شولز أن عمل المتهم ومسيرته المهنية باتت معروفة، بدأها عام 1984 وانتهى منها عام 2012. قال السيد شولز: “كجزء من تدريبه الاستخباراتي وعمله لاحقاً في أجهزة المخابرات، تنفَّس بروح برونر ونظام أمن الدولة وبدأ بالفعل في ملء “إرث” أسلافه كرئيس لقسم التحقيق في الفرع 251 منذ آذار 2011 على أبعد تقدير. كانت الحرفية العالية لأخصائي التعذيب برونر بالنسبة للمتهم رسلان مثل بنية المخابرات السورية، عبارة عن حزام النقل الذي سمح له كسُنِّي أن يستحق مكانته بين الأطراف الفاعلة العلوية في المخابرات السورية”.**

وبهذا استطاع السيد شولز توضيح فكرة “الكرسي الألماني” بسياقٍ تاريخي، وعلاقته المباشرة بالمتهم من خلال عمله السابق، أضاف السيد شولز: ” اليوم يجلس المتهم على كرسي ألماني، من سخرية القدر، مريح للغاية ولا يُستخدم كوسيلة تعذيب، بل ومع ضمان محاكمة عادلة. بيد أن للكرسي الألماني في فرع الخطيب مهمة واحدة فقط: التعذيب والألم والموت!”. ***

اختتم السيد شولز مرافعته النهائية بقوله: “عندما اقتبس المدعي العام السيد كلينغه في افتتاحية مرافعته الأخيرة قولاً من جان أميري، تذكرت بشكل لا إرادي اقتباساً من فريدريك نيتشه من كتابه “ما وراء الخير والشر” يقول فيه: وإذا نظرت إلى الهاوية لفترة طويلة، فإن الهاوية ستنظر إليك أيضاً”. يجب أن يكون الأمر كذلك بالنسبة للمدعى عليه بعد أكثر من مئة يومٍ من المحاكمة.

بعيداً عن عائلته وأطفاله، ملقى في السجن، أمام فوضى جميع دفاعاته الواهنة وغير الواعدة، والتي لم تؤدِ إلى أي توقع يمكن الاعتماد عليه لنتيجة “معتدلة” من هذه المحاكمة، نرى رجلاً يعرف بالتأكيد ما هو شكل الهاوية!

لكن الاقتباس أعلاه لا زال ناقصاً!، قبل هذا يقول نيتشه: “من يحارب الوحوش، يرغب أن يعتقد أنه لم يتحول لوحش أثناء ذلك”. وهذا السؤال يجب أن يجيب عليه المتهم ذاته، إن كانت المقولة تنطبق عليه أم لا. ولكن لاشك أن مسؤولي ورجالات نظام الأسد لديهم المؤهلات ليكونوا كذلك.

لا تزال الكلمة الأخيرة مُعلَّقة، يجب أن يستخدمها المتهم، لأن كرسي المحكمة الإقليمية العليا في كوبلنز “الألماني” سيبقى مرافقًا له لمدة طويلة جداً”.

ـــــــــــــــــــــ

هوامش:

*لم نجد مصادر تثبت علاقة السرَّاج ببرونر شخصياً.

**حزام النقل أو كما يُدعى بالألمانية “Transmissionsriemen” هو وسيلة تحمل كميات كبيرة من المواد من مكان إلى آخر، وتتكون من بكرتين، إحداهما البكرة المُسيّرة التي تؤمّن الطاقة وتُبقي الحزام في حركة مستمرة.

***المقصود هنا بالكرسي الألماني، الكرسي الذي يجلس عليه المتهم في قاعة المحكمة، ووصفه بالألماني لأنه ألماني الصنع، وليس الكرسي الألماني المتعارف عليه كوسيلة تعذيب.