الدراسات والأبحاث

سوريا: نظام ديكتاتوري وجرائم مستمرة

بالإضافة إلى جرائم الحرب الكبيرة التي ارتكبها النظام السوري من قتل مدنيين وتدمير ممتلكات واستخدام الأسلحة الكيمياوية ضد المدنيين العزل فقد ارتكب النظام السوري جرائم ضد الإنسانية واعتقد أنه لم يترك نوعا من هذه الجرائم لم يرتكبها فهناك القتل الممنهج ضد المدنيين وهناك الاعتقال والإخفاء القسري الممنهجين وهناك التعذيب والقتل تحت التعذيب وحصار المدنيين والتجويع والعنف الجنسي وتدمير الممتلكات والنهب والتهجير القسري والتغيير الديمغرافي.

كل ذلك كان ضمن سياسة ممنهجة وواسعة النطاق وممتدة وبأوامر عليا من رأس الهرم في السلطة.

ولعل أبشع الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت في سوريا وأكبر عدد من الضحايا لها كان هو الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري والتعذيب والقتل تحت التعذيب ،حيث تشير التوثيقات إلى أن أكثر من 600 ألف سوري/ة أكثر من 50 ألف إمراة والللأف من الأطفال ، سوري /ة تم اعتقالهم /هن تعسفيا وتم إخفائهم/هن قسريا لفترات تتراوح بين شهر وعدة سنوات وتعرضوا جميعا لتعذيب  ممنهج وعنف جنسي.

ومازال حتى الأن أكثر من 150 ألف سوري/ة مختفيين قسريا في معتقلات النظام وتم توثيق 15 ألف بالاسم  قتلوا تحت التعذيب والتجويع، والحرمان من الرعاية الطبية ولكن الحقائق غير الموثقة اسميا حسب الشهادات التي وثقناها في المركز السوري أن اكثر من نصف  المفقودين حتى الآن ، أي حوالي حوالي 80000  قد  قضوا تحت التعذيب أو بسبب التجويع وظروف اللاعتقال اللانسانية، وصور (ملفات قيصر) شاهد حقيقي على ما كان ومازال يعاني منه حتى الأن المعتقلون من ظروف قاسية وقتل ممنهج.

أكثر من أربعين تجربة عدالةٍ انتقاليّة جرت في العالم خلال التاريخ المعاصر، ولعلّ ما يجمعها هو مسألتان: أوّلها الفشل؛ حيث فشلت في تحقيق العدالة لكلّ الضحايا، وفشلت في محاكمة كلّ المجرمين، كما فشلت في بناء سلّمٍ أهليٍّ مستدامٍ، وثانيها أنّ كلّ هذه التجارب كانت بقرارٍ دوليٍّ أو بقرار وتدخّل دولٍ أخرى. إضافةً إلى أنّ جميع هذه التجارب بدأت بعد انتهاء أزمة الدول صاحبة التجربة، وربّما بعد زمنٍ بعيدٍ؛ حيث تطمس الأدلّة ويكون المجرمون قد فرّوا فلا يعود لتحقيق العدالة أيّ معنى مؤثّر سوى إرضاء بعض المتضرّرين، أو تم تجاهل العدالة وإلغائها بحجة بناء السلام وإنهاء الأزمة، علاوةً على أنّ تجارب العدالة الانتقاليّة في العالم كانت محدّدةً ومحدودةً ومرتبطةً بالطريقة التي تم فيها إنهاء الأزمة.

إنّ أغلاق طرق العدالة المألوفة في مثل حالة الوضع السوريّ كمحكمة الجنايات الدوليّة أو إنشاء محكمةٍ خاصّةٍ بالوضع السوريّ بسبب عدم انضمام سورية إلى اتّفاق إنشاء المحكمة واستخدام روسيا والصين الفيتو أربع مرّاتٍ لمنع هذه الطريق. كما أنّ إغلاق طرق الحلول السياسيّة الاتفاقيّة لإنهاء مأساة الشعب السوريّ وانعدام أيّ فرصةٍ لحلٍّ سياسيٍّ يحقّق الحدّ الأدنى من العدالة للضحايا ألهم الضحايا وممثليهم لاستخدام الصلاحيّة العالميّة المتوفّرة في عددٍ من البلدان الأوروبيّة، وأقدمها ألمانيا، للبدء بإجراءات العدالة وهو طريقٌ لم يسلك سابقًا إلّا بشكلٍ بسيطٍ، ولم يكن هناك نتائج تذكر في هذا المضمار.

من هنا كان تركيزنا في موضوع ملاحقة المجرمين على هذه الجريمة بالتحديد أولا لانها الأوسع نطاقا والأكثر ضحايا وثانيا بسبب وصول مئات آلف السوريين/ات إلى أوروبا ممن كانوا ضحايا هذه الجريمة وبالتالي توفر الضحايا والشهود والمدعيين على ارتكابها، والحصول على الوثائق التي تؤكد سلسلة القيادة ومسؤولية الشخصيات الأكبر في النظام السوري عن هذه الجريمة ضد الإنسانية ، كما يتوفر لدى أوروبا القضاء المستقل ويتوفر لدى قضائها الصلاحية العالمية التي تمنح القضاء ملاحقة المجرمين ضد الانسانية ومجرمي الحرب إذا كانو موجودين في أراضيها حسب اتفاقيات جنييف الأربعة واتفاقيات منع التعذيب وقرارات مجلس الأمن المتعلقة بالعنف الجنسي ، كما تتوفر لدى بعض الدول وهم ألمانيا منذ 2002 و السويد والنروج منذ 2014 صلاحية ملاحقة المجرمين ضد الإنسانية حتى لو كانوا خارج أراضيها ، لأن إفلات هؤلاء من العقاب سيهدد السلم العالمي كله.

ومن هنا كان التركيز أولا على المانيا حيث تم تقديم أربعة ملفات عام 2017 امام المدعي العام الالماني بجرائم ضد الإنسانية للتعذيب والإخفاء القسري والقتل تحت التعذيب ضد 27 مشتبه بهم من المسؤولين الكبار بما فيهم بشار الأسد وكبار أركان حكمه الأمني والعسكري.

وملف فتح  عام 2016 في فرنسا بسبب وجود ضحيتين يحملون الجنسية الفرنسية والسورية

كما تم تقديم ملف في النمسا عام 2018 بسبب وجود ضحية نمساوي سوري ،

وملف أمام المدعي العام في السويد وملف أمام المدعي العام في النروج عام 2019، وكل هذه الملفات تتعلق بالاعتقال التعسفي والإخفاء القسري والتعذيب والقتل تحت التعذيب ،

مما جعل أكثر من 60 مسؤول أمني سوري كبير ما زالوا في سوريا مشتبه بهم وموضوع تحقيق رسمي مفتوح بارتكابهم جرائم ضد الإنسانية، وبناء على هذه الملفات التحقيقية فقد صدرت مذكرات توقيف دولية بعدد عدد من المسؤلين المتهمين في أعلى هرم السلطة والموجودين في سوريا إلى الآن ، سرب منها مذكرات توقيف بحق علي مملوك رئيس مكتب الأمن الوطني ، وجميل الحسن رئيس إدارة المخابرات الجوية ، وعبد السلام محمود رئيس فرع التحقيق لدى المخابرات الجوية بدمشق.

وقد تم تقديم هذه الملفات بالشراكة بين المركز السوري للدراسات والابحاث القانونية  SCLSR والمركز الاوروبي للدستور وحقوق الإنسان ECCHR  والمركز السوري للإعلام وحرية التعبير SCM  ومجموعة ملفات قيصر  CGودعمت هذه القضايا بالعديد من الشهادات والوثائق تم جمعها من قبل المركز الدولي للعدالة والمساءلة  CIJA والآلية الدولية لجمع الأدلة عن الجرائم المرتكبة في سوريا  IIIMوتقارير منظمات دولية كمنظمة العفو الدولية  Amnesty ومنظمة مراقبة حقوق الإنسان  HRW

وبسبب اكتشافنا أحد المسؤولين الأمنيين عن جرائم التعذيب والقتل في المعتقل الفرع 251 أمن دولة موجود في المانيا فقد ابتدأ تحقيق حول ارتكابه هذه الجرائم وساهم المركز السوري للدراسات والابحاث القانونية مع المنظمات المذكورة سابقا بدعم الملف بالشهود والضحايا والوثائق وتم اعتقاله واتهامه من قبل الدعي العام الألماني في شباط 2019  وجرت محاكمة علنية ابتدأت في نيسان 2021  وانتهت يوم 13/1/2022 بتجريمه بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وهي مسؤوليته عن تعذيب أكثر من أربعة آلاف معتقل وقتل 38 منهم تحت التعذيب إضافة للعنف الجنسي وتم الحكم عليه بالسجن مدى الحياة ، بعد ان سبق ذذلك صدور حكم بحق عنصر أمن بنفس الملف في شباط 2021 حكما مماثلا بسبب مساهمته بارتكاب جرائم ضد الإنسانية بالسجن أربعة سنوات ونصف.

كما تم اعتقال وبدء محاكمة طبيب سوري في مدينة فرانكفورت الألمانية بتاريخ 19.01.2022  كان يعمل في المشافي العسكرية ومسؤول عن معتقل فرع المخابرات العسكرية في حمص ودمشق اتهم بارتكابه جرائم ضد الإنسانية بتعذيب المعتقلين ومنع الدواء عنهم والتسبب بقتل معتقل واحد على الأقل وساهم المركز بجمع الشهود والضحايا والآدلة ومازالت المحاكمة مستمرة.

وبناء على متابعة المجرمين المحتملين الموجودين في أوروبا وحسب شهادات الضحايا والشهود وبجهود من المركز السوري للدراسات والابحاث القانونية فقد تم توقيف مسؤول في ميلشسات فلسطينية تابعة لنظام الأسد في برلين ووجهت إليه تهمة ارتكاب جرائم حرب وقتل مدنيين واعتقال وتعذيب وعنف جنسي وستبدأ المحاكمة العلنية يوم 25/8/2022 في برلين.

كما وتجري تحقيقات في كل من هولندا وبلجيكا والسويد والنمسا وفرنسا واسبانيا وسويسرا بحق مشتبه بهم موجودين على أراضي الدول ونتعاون مع المدعيين العاميين والبوليس المختص في هذه الدول بمساعدة الشهود والضحايا للوصول إليهم وتحضير الملفات تمهيدا للقبض عليهم ومحاكمتهم.

في فرنسا تمّ توقيف إسلام علوش الناطق الرسميّ باسم جيش الإسلام في غوطة دمشق.

هناك أكثر من 25 ملفّ محاكماتٍ مفتوحة في ألمانيا بحقّ منتمين إلى منظّماتٍ مصنّفةٍ إرهابيّة كـ”داعش” و”جبهة النصرة”, ومنظّمات مسلّحة أخرى بتهم ارتكاب جرائم حرب، وصدرت أحكامٌ بالسجن بحقّ عددٍ منهم.

هناك عشرات الملفات التحقيقية المفتوحة في أوروبا بحقّ متّهمين ينتمون إلى منظّماتٍ مسلّحةٍ أو إرهابية في سورية.

ان التجربة السورية في العدالة تأخذ منحى فريدا ومميزا، فهي أول محاكمات تجري قبل انتهاء النزاع ونهايته. بل في خضمّها، حيث لا تزال الجرائم مستمرّةً والمجرمون يرتكبون المزيد منها، والأدلّة متوفّرة بكثرةٍ ولم يطوِها النسيان أو الفقدان.

وهي لأول مرة تبدأ بإرادة وقرار الضحايا أنفسهم وليس بإرادةٍ دوليّةٍ أو إرادة دولٍ, لذا ينحسر، إن لم نقل ينعدم، تأثير السياسة على إجراءات العدالة وسيرها، بل ربّما، وعلى الأغلب، فإنّ إجراءات العدالة تتمّ من دون رضا السياسيّين ومخالفة لرغباتهم.

كما انها ولأوّل مرّةٍ تفرض العدالة نفسها على السياسة والسياسيّين وعلى الحلول المتوقّعة للأزمة وتضع الحدود, بينما كان السياسيّون في التجارب السابقة، وفي بعض الأحيان المجرمون أنفسهم، هم من يضعون الحلول التي تتضمن حدود العدالة ودورها ومسيرتها أو تغييبها نهائيا كما حصل في لبنان، وربما حصل المجرمون الكبار على جائزة نوبل للسلام مكافأةً على جرائمهم كما حصل في كولومبيا.

وكذلك لأوّل مرّةٍ تصدر مذكّرات توقيفٍ دوليّة عن قضاءٍ وطنيٍّ بصلاحيّةٍ عالميّةٍ بحقّ مجرمين لا يزالون على رأس عملهم بصفةٍ رسميّةٍ ضمن أعلى هرم السلطة العسكريّة والأمنيّة.

ولأوّل مرّةٍ تبدأ محاكمةٌ علنيّةٌ لمتّهمين كبار بجرائم ضدّ الإنسانيّة قبل أن تجفَّ دماء الضحايا عن أيديهم, ويحاكمون ليس بصفتهم أفرادًا مجرمين وإنّما كجزءٍ من منظومة ونظام إجرامي.

ان تجربة السوريين في طلب العدالة للضحايا وملاحقة المجرميين هي تجربة رائدة واعتقد انها اثرت وتؤثر وستؤثر على الكثيرين في العالم كله ، فالمجرمون الكبار الذين يعرفون عن خبرة أن ملاحقتهم تحتاج لهزيمتهم أولا أولقرار دولي، وبسبب أنهم صاغوا قوانين بلادهم لتعطيهم حصانة من الملاحقة وكانوا يشعرون بالأمان بسبب علاقاتهم السياسية وضمانهم لعضو فاعل في مجلس الأمن يمنع إحالة ملفهم لمحكمة الجنايات الدولية، أصبحوا الآن غير مطمئنين لأن استخدام مبدأ الصلاحية العالمية حرمهم من أمان كانوا يعيشون به ، وحرمهم من القوة العسكرية أو السياسية أو الدبلوماسية التي لم يعد يمكنها حمايتهم من ملاحقة الضحايا.

المحامي أنور البني
رئيس المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية