الدراسات والأبحاث

مبدأ الاختصاص القضائي العالمي

المحامية ريم الكسيري
ماجستير في القانون الدولي
تعتبر ظاهرة محاربة الجرائم التي تشكل انتهاكات خطيرة و جسيمة لمبادئ و أحكام القانون الدولي الإنساني و القانون الدولي لحقوق الانسان من أهم التحديات التي تواجه المجتمع الدولي لاعتبارات أن هذه الجرائم تمس الجوانب الأخلاقية و الإنسانية , و من أجل تطبيق سياسة عدم الإفلات من العدالة وضرورة توقيع العقوبة على مرتكبي الجرائم هذه الجرائم الخطيرة و اتخاذ التدابير اللازمة و الفعالة و الضرورية لمنع ارتكابها في المستقبل , فإن المجتمع الدولي يسعى في مواجهتها من خلال تطبيق القانون الجنائي الدولي في حال ارتكاب هذه الجرائم في مختلف فروعه و مؤسساته و من بينها الاختصاص القضائي العالمي .
ارتبط ظهور الاختصاص العالمي للمحاكم الجنائية الداخلية بالقرصنة البحرية في أعالي البحار و التي تعتبر أول جريمة طبق عليها الاختصاص العالمي لأنها جرائم تقع في مناطق لا توجد بها سيادة دولية , بمعنى أنه لا تتمتع أي دولة في العالم بسيادة على هذه المناطق من البحار, و من ثم تم التوسع بشكل تدريجي و تطور تطبيق الاختصاص العالمي بوجود و تطور الجرائم الدولية الخطيرة كجرائم الحرب و جرائم الإبادة الجماعية و الجرائم ضد الإنسانية , حيث أدى ضعف نظام الردع الدولي القائم على آليات قضائية لا تستجيب للتطور إلى ازدياد عدد الجرائم العابرة للحدود .
و مع توافد اللاجئين السوريين الى أوربا جاء العديد من الضحايا و من المشتبه بهم في إطار أزمة اللاجئين الأمر الذي جعل من اليسير إمكانية فتح المجال أمام التحقيقات و المحاكمات الجارية في سوريا بحق أشخاص متهمين بارتكاب جرائم حرب و أعمال عنف و تعذيب و ضرب و اختطاف في سوريا . و ان هذه القضايا تتحدى أهم قناعة لدى مرتكبي جرائم الحرب و هي الإفلات من العقاب و ان هذه الملفات تشكل برهانا قاطعا على ان المجتمع الإنساني ينشغل بالجرائم الخطيرة ضد الإنسانية و المرتكبة في سوريا و أن أحد أهم أهدافها هو محاسبة المتورطين في ترهيب المدنيين أثناء النزاع في سوريا و أن العدالة ستفتح بابها مهما حصل.
و ينقسم هذا البحث الى مطلب رئيسي هو الاختصاص القضائي الذي يتوزع الى عدة فروع :
الفرع الأول – أهمية البحث في الاختصاص القضائي العالمي :
ترجع أهمية هذا البحث في الاختصاص القضائي الى :
أولا- التطورات التي عرفها القانون الدولي و التي نتجت عن الاهتمام المتزايد للدول بضرورة ردع مرتكبي الجرائم الأشد خطورة و قبولها تطبيق الاختصاص القضائي العالمي و الذي يعتبر الدعامة الأساسية لردع الجرائم ضمن نظام الردع العالمي لهذه الجرائم الخطيرة في ظل الطابع التكميلي لاختصاص محكمة الجنايات الدولية , و ذلك في الحالات التي تعجز بها مبادئ الاختصاص التقليدي عن مواجهة حالات ارتكاب جرائم دولية و انتهاكات للمصالح الأساسية التي تهم الجماعات الإنسانية الدولية و قيم العيش المشترك مثل عدم رغبة سلطات الدولة التي ارتكبت فيها الجريمة أو بحالات فرار الجناة الى دول أخرى أو كما في حالة الملف السوري بقاء المحكمة الجنائية الدولية معطلة و عاجزة عن ممارسة اختصاصها .
ثانيا – وصول اللاجئين الى اوربا و من بينهم العديد من الضحايا و الشهود و المشتبه بهم الامر الذي دفع بعض الدول الى فتح باب التحقيقات و المحاكمات الجارية بحق اشخاص متهمين في سوريا بارتكاب اعمال عنف و تعذيب و جرائم أخرى ضد الإنسانية و أهمية تحديد هؤلاء الأشخاص و التحقيق معهم و ملاحقتهم بحال توفرت الأدلة ولو كانت هذه الجرائم مرتكبة بعيدا جدا عن أماكن المحاكمات الجارية بشأنها .
ثالثا – كما و تعود أهمية هذه الدراسة لهذا الوقت الذي أصبحت فيه عولمة مكافحة الإفلات من العقاب مطلبا دوليا من طرف المجتمع الدولي و المنظمات الحقوقية , و بذلك يكون من الناحية النظرية لضحايا الحرب أو التعذيب أو الجرائم التي ترتكب في زمن الحرب تقديم الشكاوي و عرض قضاياهم أمام المحاكم الأجنبية على أساس الاختصاص القضائي العالمي وفقا لما نصت عليه اتفاقيات جنيف لعام 1949 م و اتفاقية مناهضة التعذيب لسنة 1984 م ومنع استخدام الأسلحة الكيماوية و يعتبر تطبيق الاختصاص في المرحلة الحالية الوسيلة الأكثر جدية و فاعلية لمعاقبة مرتكبي أكثر مرتكبي جرائم الحرب و الجرائم الأشد خطورة التي تؤثر بالمجتمع الإنساني ككل.
رابعا – الحيلولة دون هروب المجرمين من موضوع المساءلة و الإفلات من العقاب عما ارتكبوه من جرائم خطيرة تنتهك القانون الدولي الإنساني بسبب اختلاف قواعد الاختصاص بين الدول المختلفة بحيث يحقق الهدف و الغاية من وجود هذا المبدأ و هو تقديم المسؤولين للعدالة . و أيضا تقليص الملاذات الآمنة التي تساعد المتورطين على الإفلات من العقاب.
خامسا- إرسال رسالة قوية الى مرتكبي الجرائم الخطيرة بحق الشعوب و المدنيين أثناء النزاعات عن طبيعة الجرائم التي ارتكبوها و عن الملاحقة و انهم سيحاكمون و أن باب العدالة لن يغلق
توجد حاليا عدة أدوات قضائية للحماية الجنائية من الجرائم الدولية الأشد خطورة و من بينها الاختصاص العالمي الذي يمنح لكل قضاة العالم أهلية متابعة و محاكمة مرتكبيها طبقا لقوانينهم العقابية , بغض النظر عن مكان ارتكابها , و جنسية الأطراف , باعتبار هذه الآلية الإجرائية وجدت لمعاقبة مرتكبي الجرائم الدولية لتقوم بالدفاع عن المصالح و القيم ذات البعد العالمي ,
الفرع الثاني – ماهية مبدأ الاختصاص العالمي و تعريفه :
أولا – تعريف الاختصاص العالمي :
يعرف بأنه :” الاختصاص الذي يمنح لكل قضاة العالم أهلية متابعة ومحاكمة مرتكبي الجرائم الأشد خطورة طبقا لقوانينهم العقابية , بغض النظر عن مكان ارتكابها , و جنسية الأطراف , و بهذا يعد الاختصاص العالي استثناء على مبدأ إقليمية قانون العقوبات , و كما يتميز على مبادئ الاختصاص القضائي العابرة للإقليم ” مبدأ الشخصية و مبدأ العينية ” من خلال التخفيف أو إلغاء أي معيار ارتباط بين الجريمة دولة القاضي , و يتجسد فكرة أن من حق كل دولة محاكمة مرتكبي و معاقبتهم على الجرائم التي نصت عليها الاتفاقيات الدولية أو القانون الدولي العرفي و التي تتمثل أساسا في جرائم الحرب و جرائم ضد الإنسانية و الإبادة الجماعية .
ثانيا – ماهية الاختصاص العالمي :
و يعتبر الاختصاص العالمي اجراء استثنائي للعدالة الجنائية , يمنح الدول سلطة محاكمة مرتكبي جرائم خطيرة محددة بموجب القانون الدولي , حتى لو لم يكن لهذه الدول أي صلة بالمتهمين أو الأفعال التي ارتكبوها , و بمعنى آخر فإن الشخص المتهم بارتكاب مخالفة خطيرة للقانون الإنساني يمكن مقاضاته امام محكمة أي دولة تمارس الاختصاص العالمي .
يعد مبدأ الاختصاص الجنائي العالمي بمثابة آلية إجرائية لمعاقبة مرتكبي الجرائم الدولية باعتباره يقوم على ركيزة الدفاع عن المصالح و القيم الإنسانية ذات البعد العالمي , و يتجسد في فكرة أن من حق كل دولة محاكمة مرتكبي الجرائم و معاقبتهم على الجرائم المذكورة في الاتفاقيات الدولية أو في القانون العرفي والتي تتمثل أساسا في جرائم الحرب و الجرائم ضد الإنسانية و جرائم الإبادة الجماعية بغض النظر عن مكان ارتكاب الجريمة و كذلك جنسية مرتكبيها و الضحايا .
و بما أن ظاهرة الإفلات من العقاب توجد في حالة امتناع السلطات الحالية في البلدان التي تأثرت بالجرائم من متابعة المجرمين مكان الجرم مبدأ الاختصاص الجنائي العالمي أو تتقاعس عن ملاحقتهم , فإن مبدأ الاختصاص العالمي جاء كنظام قانوني من أجل تجاوز الثغرات القانونية الموجودة في القانون الدولي لأن الهدف منه ضمان تقديم المسؤولين عن ارتكاب جرائم دولية معينة بقانون الدولي الإنساني .
كما و يعتبر الاختصاص العالمي تعبيرا عن التدويل المثالي لمسألة عقاب مرتكبي جرائم الحرب لأنه يمنح اختصاص لكل دول العالم بمتابعة و محاكمة مرتكبي جرائم الحرب و جرائم الإبادة الجماعية و الجرائم ضد الإنسانية أينما وجدوا بغض النظر عن مكان ارتكابهم لجرائمهم وجنسيتهم أو جنسية ضحاياهم , و معاملتهم كأعداء للإنسانية و من هذا المنظور يشكل الاختصاص القضائي العالمي إحدى آليات الكفاح و النضال المشترك للدول ضد اللاعقاب , و يجسد قضاءا جنائيا خارج الإقليم .

الفرع الثالث- مبررات وجود الاختصاص القضائي العالمي :
هناك عدة مبررات واقعية يستند الاعتراف بوجود الاختصاص القضائي العالمي اليها و منها
أولا -انه من المزعج وجود المتهم على إقليم دولة معينة أو قبول تواجده في الدولة المطلوب منها ممارسة الاختصاص العالمي .
ثانيا – يشكل الاختصاص القضائي العالمي امتدادا للاختصاص الإقليمي تفاديا لبقاء المجرم دون ملاحقة و عقاب على اعتبار أن مسألة الإفلات من العقاب كظاهرة وجدت بالأساس عندما تتقاعس السلطات المحلية في البلدان التي تأثرت بالجرائم من متابعة مرتكبي الجرائم و ملاحقتهم هذا الأمر أتاح للاختصاص العالمي المجال من النهوض بمهمة النظر في الجرائم نيابة عن المجتمع الدولي .
ثالثا – و يعتبر أساس الاختصاص العالمي يكمن في فكرة المصالح الأساسية المشتركة للدول و التي يتعين عليها العمل لاحترامها , و ذلك بقمع الجرائم التي تمسها و تضربها . و بالتالي ممارسة المبدأ ترتكز أساسا على فكرة التضامن الإنساني للدفاع عن المصالح الدولية برمتها و حمايتها جنائيا , و في هذا الاطار تظهر ممارسة الاختصاص العالمي من طرف المحاكم الجنائية الداخلية كمظهر من مظاهر ازدواج الوظيفة , فالدولة تمارس ولايتها القضائية طبقا لمبدأ عالمية الردع ليس دفاعا عن مصالحها الخاصة فقط , و انما دفاعا عن المصالح المشتركة للحماية الدولية باعتبارها عونا لها.
رابعا- يرجع اسناد مهمة تحقيق العدالة الجنائية للمجتمعات الداخلية إلى وجود مصلحة اجتماعية مباشرة يتعين حمايتها جنائيا , و المحافظة عليها , و ذلك استنادا الى معايير ربط محددة تعكس العلاقة الموجودة بين دولة القاضي و عنصر أو عدة عناصر من الواقعة محل المتابعة الجنائية .
خامسا – تطبيق الاختصاص العالمي يساهم في الغاء حق اللجوء للمتهمين بارتكاب جرائم فظيعة انطلاقا من فكرة الحظر الجماعي الذي يحدثه تواجدهم على إقليم دولة معينة دون عقاب .

سادسا – و يعتبر هذا البند من أهم الأسباب التي يستند اليها وجود الاختصاص لقضائي العالمي و هو المبرر الذي يرتكز على وجود ثغرات في القانون الدولي فيما يتعلق بقمع الجرائم الدولية فرغم إيجاد بعض الأجهزة ذات الطابع الجنائي كالمحاكم الجنائية الخاصة , إلا أن فعاليتها تبقى محدودة نوعيا و مكانيا و زمانيا .
فاختصاص محكمة الجنايات الدولية هو اختصاص مقيد بإرادات الدول , إلا أذا تدخل مجلس الأمن الدولي و أحال القضية الى المدعي العام طبقا لنص المادة 13-ف2 الذي له سلطة تقديرية في تحريك المتابعة , كما أن اختصاصها محدود زمنيا و لا يسري بأثر رجعي لنص م11 من النظام الأساسي للمحكمة على الجرائم التي ارتكبت عام 2002 تاريخ دخوله حيز النفاذ , مما يعني بقاءها دون عقاب .
الفرع الثالث _ الاتفاقيات التي نظمت الاختصاص القضائي العالمي :
هنالك العديد من الاتفاقيات التي نظمت مبدأ الاختصاص العالمي و بموجبها يفرض على الدول المنضمة لها استخدام مبدأ الولاية القضائية العالمية لمحاكمة جرائم الحرب المرتكبة في اطار نزاع دولي مسلح
ان هذا المبدأ تم تقنينه بموجب اتفاقيات جنيف لعام وجود 1949 م , و يتوجب تطبيق الاختصاص العالمي على جميع المخالفات الخطيرة لهذه الاتفاقيات و التي يندرج معظمها تحت بند فئة جرائم الحرب أو جرائم ضد الإنسانية أما الجرائم الأخرى التي يجوز للدول ممارسة الاختصاص القضائي العالمي بشأنها فتشمل الإبادة الجماعية التي ترتكب أثناء الحرب و التعذيب و الاتجار بالرقيق , و الهجمات على الطائرات او اختطافها و الأعمال الإرهابية و أصبحت حقيقة أن للدول الحق إضفاء الاختصاص العالمي على محاكمها الوطنية في جرائم الحرب قاعدة من قواعد القانون العرفي و هي القاعدة 157 من دراسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر للقانون الإنساني العرفي المنشورة عام 2005م
و الفصل العنصري ” الاتفاقية الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري و المعاقبة عليها لعام 1973
التعذيب ” اتفاقية مناهضة التعذيب لعام 1984
الاختفاء القسري ” الاتفاقيات الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري لعام 2006
ان هذه الاتفاقيات تفرض على الدول و الموقعة عليها تسليم كل شخص مشتبه به موجود على أراضيها أو التحقيق معه .
كما أن القانون الدولي العرفي يسمح باستخدام الولاية القضائية العالمية لملاحقة الجرائم التي تعتبر خطيرة من قبل المجتمع الدولي أو التي يعتبرها قبيحة و سيئة بحق الشعوب مثل جرائم الحرب المرتكبة في النزاعات المسلحة غير الدولية و الجرائم ضد الإنسانية و الإبادة الجماعية و في الآونة الأخيرة و بموجب هذه الاتفاقيات قامت بعض الدول كألمانيا و السويد باستخدام قوانين الولاية القضائية العالمية التي تجيز لهم التحقيق في جرائم الحرب و الجرائم ضد الإنسانية و الإبادة الجماعية في سوريا و البعض الآخرأيضا يتحرك دول لتفعيل هذا المبدأ .

الفرع الرابع – أوجه الشبه و الخلاف بين الاختصاص الجنائي العالمي و اختصاص القضاء الجنائي :
أولا – التشابه بينهما :
ليس هناك الكثير من الفروقات بين الاختصاص الجنائي العالمي و بين اختصاص القضاء الدولي , و يعتبر أحدهما مكمل للآخر بغض النظر عن أن لهما سلطة مباشرة الدعوى التي تتوقف على وقوع انتهاكات جسيمة للقانون الإنساني و حقوق الانسان , و ان كان أمر تحديد الجرائم الدولية للدولة التي في نطاق الاختصاص الجنائي العالمي متوقف على الالتزامات الدولية للدولة صاحبة هذا الاختصاص و التي تفرض أو تجيز لها الأخذ به و لا يمكنها توسيع نطاق الاختصاص الجنائي العالمي في قانونها الوطني بما يتجاوز التزاماتها الدولية .
و يشتركان أيضا في نقطة أخرى في ان كلاهما ينشد الى الهدف ذاته و هو كفالة عدم تمتع مرتكبي جرائكم الحرب بالإفلات من العقاب .
ثانيا – الاختلاف بينهما :
يختلفان في مبدأ الولاية القضائية العالمية تمارسها الدول , بينما في الاختصاص الجنائي العالمي مصدره العرف الذي كرس من القدم مواجهة الجرائم الدولية المكيفة على انها قانون الشعوب طبقا للقانون الدولي العرفي و هذا ما يبدو واضحا و العديد من الجرائم الدولية مثل التعذيب و الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني لمنع الإفلات من العقاب . فالدول هي التي تمارس الاختصاص القضائي العالمي بينما اختصاص القضاء الجنائي الدولي تمارسه المحاكم الجنائية الدولية .

الفرع الخامس – العقبات و العراقيل التي تقف في وجه الاختصاص العالمي :

يفضل من حيث المبدأ تحقيق العدالة في إقليم الدولة التي ارتكبت فيها الجرائم إلا أنه مرحليا يستحيل فعل ذلك و في غياب أي بدائل لتحقيق العدالة في سوريا فان مبدأ الاختصاص القضائي العالمي شكل أمال عريضة باستخدامه لفتح باب التحقيقات و فتح سبل تحقيق العدالة . و لذلك يمكننا تعداد بعض العقبات و العراقيل التي تواجه مبدأ الاختصاص القضائي :
أولا- قد تكون هناك عقبات أمام تقديم هذه الشكاوي إذا كانت الدول المعنية لم تجعل تشريعاتها المحلية متوافقة مع هذا الالتزام الدولي , و يجب دمج أحكام خاصة في التشريعات الجنائية و قواعد الإجراءات الوطنية بحيث يسري مفعول سلطة اختصاص المحاكم الوطنية .
و لذلك طلب مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة من الدول تعديل تشريعاتها المحلية لدمج مبدأ الاختصاص القضائي العالمي في قوانينها و لتتمكن هذه الدول من معاقبة مخالفي القانون الإنساني “بيان رئاسة مجلس الأمن بتاريخ 12 شباط 1999
و تقدم الأمين العام للأمم المتحدة بنفس الطلب في تقريره و بشأن حماية المدنيين في أوقات النزاعات المسلحة 8 أيلول 1999
ومن اجل ذلك قامت معظم دول الاتحاد الأوربي بتعديل قوانينها للتوافق مع هذا الالتزام و دول أخرى مثل كندا و سويسرا و بعض الدول الأخرى ما زالت تبدي تحفظاتها خاصة أمريكا و فرنسا و تصر على التمسك بأنظمتها الوطنية فيما يتعلق بتلك الجرائم
ومن الجدير بالذكر أن معظم التشريعات تنص على ضرورة وجود المتهم في إقليم الدولة المعنية لتفعيل سلطة اختصاص محاكمها في :
1– الملاحقات القضائية العادلة لمرتكبي جرائم جسيمة بموجب القانون الدولي
قد تساعد في استعادة كرامة الضحايا عن طريق الإقرار بما تعرضوا له من معاناة
2- احترام القانون و سيادته و بعث الثقة و الأمل و الالتزام به
3- المحاكمات العادلة من شأنها حماية المستقبل و الأجيال الإنسانية من ممارسات تنتهك حقوق الانسان بالوضع الذي جرى التحقيق بشأنه .

ثانيا – و من العقبات التي تقف بوجه الاختصاص القضائي العالمي أيضا عدم التعاون القضائي بين سلطات الدولة مكان ارتكاب الجريمة و الدول القائمة بالمتابعة بسبب رفض استقبالها للجان التحقيق و استحالة سفر العديد من الشخصيات القضائية الى تلك البلاد , خصوصا إذا تعلق الأمر بالتحقيق مع الشخصيات الرسمية لبلادها كرئيس الدولة أو أحد وزرائها لأنها تعتبره مساسا بسيادتها و هذا الامر يقف حائلا أمام القضاء الداخلي للدولة التي ينعقد اختصاصها استنادا الى مبدأ الاختصاص الجنائي العالمي بسبب غياب التعاون القضائي مع سلطات الدولة المرتكب فيها الجرائم فقد يكون من الصعب على المحققين و المدعيين الأوربيين العثور على الأدلة الكافية لتوجيه الاتهامات .
ثالثا- ومن الجدير بالذكر أن العقبات المالية من أهم العقبات التي تواجه الاختصاص القضائي فهذه الآلية مكلفة و باهظة الثمن لأنها تتطلب مبالغ مالية كبيرة جدا لتنفيذ الإجراءات المتعلقة بالمتابعة و هذا الأمر الذي يدفع ببعض الدول الى تأجيل تفعيل اختصاصها العالمي أو التنصل منه بالرغم من توافر الشروط كافة لتحريك الدعوى ضد المتهمين بارتكاب جرائم خطيرة .
و أيضا هي باهظة الثمن من ناحية أن التحقيق بالجرائم يتطلب انتقال السلطة القضائية الى مكان وقوع الجريمة لإجراء المعاينات اللازمة و جمع الأدلة و المعلومات و أدلة الاثبات و سماع الشهود و التحقيق مع الضحايا و نقل جميع هذه المعلومات الى الدولة صاحبة الاختصاص العالمي بالنظر في الجريمة الأمر الذي يحتاج مبالغ طائلة , وإن وجود اللاجئين السوريين في أوربا ساعد على تخطي بعض من هذا الأمر و ساهم في أن تتخذ بعض الدول المبادرة لتفعيل اختصاصها القضائي العالمي حيث سهل وجود العديد من الضحايا و المتهمين في أوربا على فتح باب المحاكمات على ارتكاب جرائم خطيرة في سوريا و تفعيل الاختصاص القضائي العالمي في العديد من الدول الأوربية , و جمع الأدلة عن طريق سماع الشهود و الضحايا و المعتقلين السابقين و اثبات التعذيب الذي تعرضوا له في السجون و المعتقلات , الأمر الذي وسع الامكانية لفتح باب هذه المحاكمات في دول عديدة كما حصل في ألمانيا و في قضية سيزر في فرنسا و السويد و مبادرات جديدة أخرى في دول أوربية أخرى.
في ألمانيا مثلا فتح تحقيق ضد شركة كوسموس لبيعها معدات مراقبة للحكومة السورية ربما استخدمت لتسهيل اعتقال المحتجزين و تعذيبهم .
و كذلك يبدو من العديد من القضايا التي استخدمت فيها الولاية القضائية العالمية أنها استهدفت الجماعات المعارضة المسلحة في سوريا أو الجماعات الإسلامية المتطرفة مثل داعش ولم يكن ذلك بسبب انحيازات في السياسة وانما هناك العديد أيضا من التحقيقات التي بدأت في أنحاء أوريا ضد الجرائم التي ارتكبها النظام في سوريا
و بالرغم من أن بعض الدول تتجاهل هذا الاختصاص عن طريق التسامح مع المتورطين في ارتكابهم لجرائم تشكل انتهاكات خطيرة للقانون الدولي الإنساني بالتنقل عبر أراضيها و دون محاسبة بحجة :
عدم انعقاد الاختصاص القضائي العالمي على الصعيد الوطني أو
بسبب عدم تضمين هذه الدول قوانينها المحلية على الجرائم المرتكبة
الا ان هناك العديد من الدول التي سارعت الى تغيير قوانينها و تكييفها بما بتناسب مع القانون الدولي الإنساني و القانون الدولي لحقوق الانسان .
الفرع السادس – الفرق بين عمل المحاكم الوطنية حسب الاختصاص العالمي الاختصاص العالمي و محكمة الجنايات الدولية :
محكمة الجنايات الدولية هي محاكمة سياسية عمليا تختص بمحاكمة الرموز والشخصيات في المستوى الأعلى من المسؤولين السياسيين أو العسكريين الذين أعطوا الأوامر أو قادوا أو أشرفوا على جرائم الحرب أو الجرائم ضد الإنسانية ويعتمد على وجودهم برأس السلطة مما يمنحهم القدرة والإمكانية للأمر أو الإشراف أو السكوت عن هذه الجرائم لأنها حصلت تحت سلطتهم ولا يعتد أو يعتبر وجودهم بمراكز سياسية شرعية دوليا والحصانة الممنوحة لهم بسبب مناصبهم بينما يتجاهل الشريحة الوسطى أو الدنيا منهم بسبب اعتبار إجبارهم على الخضوع للأوامر والترتيب العسكري والخوف على حياتهم أو حياة عائلاتهم عند العصيان , فإن الاختصاص العالمي للمحاكم الوطنية هو محاكمة شخصية ويمتد ليشمل شريحة أوسع بكثير من المجرمين تطال المستويات المتوسطة والدنيا أحيانا من المجرمين ويركز على الأشخاص التي ثبت ارتكابها الجريمة أو ثبت إعطاء الأوامر بارتكابها أو ثبت علمهم بها وعدم القيام بمنعها أو محاسبة مرتكبيها وطنيا , والاختصاص العالمي للدول يحاول تجنب مساءلة المسؤولين السياسيين الذين لهم حصانة دولية بمراكزهم الحكومية ما لم يتم الإثبات القاطع على ارتكابهم الجرم أو الأمر به

ختاما –

يمكن القول بأن الاختصاص الجنائي العالمي بأنه آلية تمكن المحاكم الوطنية من متابعة مرتكبي جرائم مصنفة في اطار الجرائم التي تمس الأمن و الاستقرار الدولي من هذا المبدأ و ارتباطه بمبدأ آخر و هو الاختصاص التكميلي الذي يعتبر من أهم المبادئ التي تساعد في تفعيل الاختصاص العالمي , و هو صلاحية تقررت للقضاء الوطني في متابعة و محاكمة و عقاب مرتكبي أنواع معينة من الجرائم بالاعتماد فقط على طبيعة هذه الجرائم بغض النظر عن المكان الذي ارتكبت فيه الجريمة أو جنسية الجاني أو تواجد المتهم داخل إقليم الدولة المطبقة للمبدأ و انعدام تسليم المجرم الأجنبي , و اتسام الجريمة بالطابع الدولي . حيث يعتبر تجريم الأفعال التي تنتهك الإنسانية من تواري مجالات الشؤون الداخلية التي يحرم ميثاق الأمم المتحدة التدخل الخارجي فيها مع النمو المتزايد للتعاون الدولي , الأمر الذي ضيق الكثير من نظرية السيادة الوطنية بصفة عامة و وفي مجالات حقوق الانسان بشكل خاص حيث لم يعد انتهاك حقوق الانسان في داخل الدولة محميا بمبدأ السيادة و عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدولة و لم يعد المجرمين في هذه الدول في مأمن من الملاحقة و المحاسبة عما ارتكبوه من جرائم تعتبر انتهاكا لحقوق الانسان و حقوق شعوبهم و لم يعد من المقبول فكرة أن السيادة الوطنية و التدخل بالشؤون الداخلية للدولة يمنع المجتمع الدولي من ملاحقتهم و محاسبتهم .

اترك تعليقاً