*

الرقابة ورغباتنا … بناء الإنسان

أثار تعيين الحائزة على جائزة نوبل للسلام توكل كرمان في مجلس الرقابة على الفيس بوك عاصفة من الاحتجاجات متهمينها بأن لها ميول أسلامية واضحة , وخائفين أن تتأثر المنشورات على الفيس بوك بقراراتها , وأنها يمكن أن تحد من حرية التعبير حسب ادعاء مهاجمين هذه الخطوة.

من الواضح أن المهاجمين لهذه الخطوة هم من التيارات العلمانية واليسارية وللأسف عدد منهم ممن يعملون بمجال حقوق الإنسان , وفي الوقت الذي أتفهم هذا الهجوم من قبل التيار الأول العلماني واليساري باعتبارهم قلقين على منشوراتهم، فإنني لا أبرر ذلك بل أدينه من قبل من يعمل في مجال حقوق الإنسان ,

أولا إن الرقابة على المنشورات هو ضروري لمنع وحجب كل الدعوات للتطرف أو القتل أو التمييز أو التشهير والإساءة للأخرين أو المناظر والصور المؤذية وغيرها من القضايا , وبالتالي لا مجال أبدا لأن يكون أي ناشط في مجال حقوق الإنسان ضد الرقابة بالمطلق،

إن المسألة تتعلق بمن يقوم بهذه الرقابة ، وكيفية قيامه به ، وإمكانية الاعتراض على هذه الرقابة أمام جهة حيادية .

وثانيا إن الاتهامات بالنسبة لتوكل والاعتراض عليها تتعلق بمبادئها التي نسبت إليها , وهذا أساسا مخالف لمبادئ حقوق الإنسان من حيث التمييز على اساس الأفكار التي يؤمن بها الإنسان .

من قال بأن من يحمل أفكار دينية هو أكثر قمعا لآخرين من الذي يحمل أفكارا علمانية أو يسارية ؟

كيف نقيم كنشطاء حقوق إنسان الأفكار الأخرى ؟ هل نقوم كذلك بقمع من يخالف أفكارنا ونسامح من يتآلف معها ؟

إن هذا التمييز لا ينسحب فقط على مبادئ حرية الرأي والتعبير ، وإنما للأسف ينسحب على مجل حياتنا وتصرفاتنا , فندافع ونحمي أخطاء وربما جرائم من يوافقنا الرأي بينما نشير لأبسط أخطاء ونشهّر بمن يخالفنا،

هل هذا يعني أن تهاجم تعيين قاضٍ أو أي موظف بأي موقع نتأثر به فقط لأنه يؤمن بأفكار لا نؤمن بها ؟

هذا يعني حكما بالإلغاء والتميز التام ضد أصحاب مبدأ أو فكر ما لمجرد اعتناقه ،

ولماذا كنا جميعا “وأنا مازلت أكيد” ضد المرسوم 49 لعام 1980 الذي يجرم كل من ينتمي لحزب الإخوان المسلمين في سوريا ؟

هل هذا يعني أن من يعترض على تعيين توكل كرمان يؤيد مثل هذا القانون ؟

وهل هذا يعني أنه إن وصل لموقع القرار مستقبلا في سوريا يسقوم بإصدار مثل هذا القانون؟

إننا كنشطاء حقوق إنسان لا يمكننا ولا يجب علينا أن ندين أي شخص لمجرد أنه يعتنق رأياً , بل يمكن أن ندين عندما يرتكب أي شخص مهما كان رأيه أو معتنقد انتهاكا أو جريمة بغض النظر عن قربنا أو بعدنا عن آرائه ومعتقداته.

وهنا السؤال الأهم ! ما هو المعيار ؟ وما هي الضوابط المفروض توفرها بالجهات الرقابية ؟

ما المرجعية التي تحدد ماهو جريمة وما هو ليس جريمة ؟

المهم أولا أن تكون الضوابط معلنة وشفافة ويعرف بها كل المستخدمين، والمهم أيضا أن يكون هناك مرجع أعلى للإعتراض على القرارات التي نظنها أو نعتبرها ظالمة ضمن قواعد محددة تضمن العدالة بأقرب أشكالها،

ومن هنا تأتي أهمية وضوروة المرجعية القضائية الحيادية والمستقلة والنزيهة لتضبط تصرفاتنا وأفعالنا جميعا، وبشكل متساو لا يميز على أساس الدين أو العرق أو الرأي أو المعتقد.

وهذه المرجعية فقط هي التي ستكون ضابط للمجتمعات وطريق بنائها ونجاحها ، ولا يمكننا ” على الأقل ” كنشطاء حقوق إنسان أن ندين أو نعترض أو نحتج إلا بناء على هذه الضوابط وعلى قرارت المرجعية .

ومن هذه القضية بالذات يمكن أن ننطلق لموضوع إعادة بناء سوريا وعلى الأخص الإنسان السوري من نقطة محددة جدا ” وجميعنا بحاجة إعادة بناء فكري وذاتي ” ، وهي أولا وضع القواعد والضوابط بقوانين ومن ثم خلق المرجعية القضائية التي تراقب وتحاسب خرق القواعد والقوانين ، وحماية هذه المرجعية القضائية نفسها بقواعد وضوابط تمنع قدر الإمكان ارتكاب الأخطاء لتكون قرارتها أقرب ما يمكن للعدالة ، وبعد ذلك ليأتي من يكون ليتبوأ أي منصب فرأيه بالنهاية محكوم فقط بموقفه الشخصي ولا يمكن أن يؤثر على القرارات العامة.

المحامي أنور البني

رئيس المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية