مدعي بمحكمة كوبلنتز ضد أنور رسلان
لونا وطفة
المدعي بالحق المدني الثاني في هذه الجلسة يعمل في مجال الصحة النفسية وأدلى شهادته في المحكمة سابقاً بتاريخ 18/09/2021.
وفيما يلي مرافعته الكاملة كما قدمها أمام هيئة القضاة بتاريخ 15/12/2021 حيث بدأ بها الساعة الواحدة والربع وانتهى الساعة الواحدة وأربعين دقيقة:
“بسم الله الرحمن الرحيم
سيدي القاضي، السادة والسيدات،
إن هذه المحكمة لها أهمية كبيرة في السياق السوري فهي أول محكمة تنظر في قضية الاعتقال تحت النظام السوري في هذا المستوى. لذلك نريدها ان تكون قصة نجاح يمكن البناء عليها للوصول الى قادة هذا النظام وأهم العناصر والأشخاص الذين أسسوه وحافظوا عليه.
حتى الآن مازال، وحسب ما أمكن توثيقه، يوجد أكثر من 130 ألف معتقل ومفقود منهم أبي وأولاد عمي وأقاربي وأصدقائي وغيرهم من الأبرياء. أبي الذي اختفى قبل ثماني سنوات وكان عمره حينها سبعين عاماً، وهو يأتيني إلى الآن في منامي. لا أدري متى يمكنني أن أقبل أنه توفي، أو يستمر الأمل بأن أراه! ولكم أن تتخيلوا تلك المرأة التي فقدت زوجها أو ولدها، ترى كم من السنيين ستنتظر. إن الشعب السوري التواق للحرية ينظر بتفاؤل وأمل لهذه المحكمة ويأمل أن تؤدي إلى فتح الطريق للكشف عن جرائم النظام الفظيعة.
سيدي القاضي،
لقد كان واضحا منذ البداية، عقلية النظام الغاشم. فهو لا يتورع عن القيام بأي شيء تجاه المواطنين الأبرياء حتى يحافظ على حكمه. لقد كنا كسوريين نحلم بأن يكون لدينا تعددية سياسية يسلم فيها رئيس سابق الحكم لرئيس جديد بكل سلاسة وسلمية. لقد كنا نحلم أن نرى مشهداً يشبه ما رأيناه منذ عدة أيام، كيف أن السيدة ميركل قد غادرت منصبها وسلمت كل شيء لمن يخلفها. ولكن شبيحة النظام وعبيده أصروا على أن يبقى الأسد في الحكم وقالوا ” الأسد أو نحرق البلد “!! وهم لم يقوموا فقط بإحراق البلد وتهجير أهله وتخريب الاقتصاد والمجتمع، ولكنهم أحرقوا البلد حرفياً!! بقصف المدارس والمستشفيات وبيوت الآمنين، وحتى مخيمات النزوح لم تسلم من صواريخهم.
إن الاعتقال الذي يقوم به النظام السوري ليس كما يدعي ” إجراءً مشروعاً يقوم به لحماية أمن البلد” وانما أداة من أدواته القذرة لإسكات أصوات الحرية، لأنها فضحته وأظهرت حقيقته أمام العالم. وبينما كان النظام يستهدف المثقفين، والسلميين الذين ينادون بالحرية، ويعذبهم ويقتلهم، كما حصل مع زملائنا ورفاق دربنا في الثورة السلمية ومنهم أيقونات الثورة السورية الشهيد يحيى الشربجي، والشهيد غياث مطر، كان في الوقت نفسه يطلق سراح ” الإرهابيين، والمتشددين والتكفيرين ” حسب تصنيفه! لكي يسهل لهم لاحقاً تشكيل الكتائب العسكرية مثل داعش وغيرها، ليظهر أمام العالم كمحارب للإرهاب. إن اعتقالي، وزملائي الأطباء الذين كانوا يؤدون واجبهم المهني والوطني وغيرنا كثير من طلاب الحرية المؤمنين ببلدهم لجدير بأن يفند ادعاءات هذا النظام. وإن لم تظهر في هذه المحاكمة علاقة النظام بداعش، فأنا متأكد في أنها ستظهر في محاكمات لاحقة، نتمنى أن تكون قريبة.
سيدي القاضي،
إن الفرق بين عقلية من ثاروا من أجل الحرية وإنشاء دولة لحماية مواطنيها ورفاههم، وعقلية النظام الذي يمنُّ على مواطنيه بأنهم كبروا، ولم يتعرضوا لأذى، والذي هو مستعد لإحراق الأخضر واليابس، وقتل الكهول والنساء والأطفال من أجل أن يبقى في الحكم، لهو فرق كبير. ومن أجل أن نُخلِّص بلدنا وأهلنا من هذا النظام، قمنا بالثورة، ولن نتراجع حتى نحقق أهدافنا بإذن الله .
سيدي القاضي،
لقد تم نقلي إلى الفرع الرئيسي لأمن الدولة في عيد الأضحى، وهو أهم يوم لنا في السنة. في ذلك اليوم الذي كان من المفترض أن يكون من أسعد الأيام في حياة المرء، حيث يحتفل مع الأهل والأصدقاء. كنت أنا وزملائي الأطباء المعتقلين مجبرون على الوقف في وضعيات مؤلمة طوال النهار. وبينما كنت واقفاً أتألم وأستمع إلى صوت احتفالات العيد وتكبيراته في الخارج! كانت لدي الشجاعة أن أدعو الله أن يعطيني القدرة على المسامحة! وأعتقد أن الله قد استجاب لي في ذلك وأنا (وأعتقد غيري كثير) من طلاب الحرية جاهزون لمسامحة المعتدين فيما لو توقفوا عن جرائهم واعترفوا بذنوبهم وقبلوا الانخراط في آليات العدالة الانتقالية.
أنا لا أحمل في نفسي أي حقد شخصي تجاه أنور رسلان ولا غيره ممن انتموا لأجهزة الأمن التابعة للنظام، في الحقيقة أنا أرثي لحالهم. والانتقام هو خارج قاموسنا. ما نريده هو النجاح في إعادة بناء وطننا على أسس الحرية وكرامة الإنسان وإعادة الحقوق للمتضررين.
لقد دفعنا كثيراً من صحتنا ووقتنا وفقدنا الكثير من أقاربنا وأصدقائنا. لقد عانى مئات الآلاف من الأثار الجسدية والنفسية للاعتقال، ولم تتوقف معاناة النساء الذين اعتقلوا عند التعذيب النفسي والجسدي، ولكنهم عانوا من الوصمة ورفض المجتمع، حتى أن بعضهم فكر بالانتحار أو انتحروا فعلا!
لذلك فإن الانتقام لن يعيد لنا ما خسرناه، ولكن يهمنا أن تكون لمعاناتنا معنى يبررها ويواسينا. إنه كما ذكرت سابقا نوع من العلاج النفسي “العلاج بالمعنى” وبالمناسبة فمخترع هذا العلاج هو طبيب نفسي ألماني يدعى “فرانكل” عانى من الاعتقال والتعذيب لمدة 3 سنوات في معسكرات الاحتجاز النازية. وقد وجد في المعتقل أن وجود معنى لحياة الناس ومعاناتهم هو ما يبقيهم على قيد الحياة ! لقد كانت مشاركتي في هذه المحكمة على صعوبة هذه المشاركة وشدتها النفسية نوع من إيجاد المعنى. أريد أن أشعر أنني أساهم في فضح آلة التعذيب التابعة للنظام السوري، ونريد أن نشعر بأننا نساهم في عدم تكرار ما حدث من خلال إرسال رسالة واضحة لجميع من ستسول لهم أنفسهم بالانتماء إلى مثل هذه المنظومة المخابراتية المجرمة: إن انشقاقكم عنها بعد ارتكاب ما ارتكبتموه، لا يعفيكم من مسؤولياتكم، وبمعنى آخر “إنها مهنة لا تطهر بالانشقاق”. لذلك أتمنى ثانية من محكمتكم الموقرة أن تساعد الشعب السوري التواق الى الحرية والعدالة في تحقيق هذا المعنى! بأن تكون معاناتنا كسوريين هي آخر معاناة من هذا النوع. لقد طفح الكيل enough is enough!!
في النهاية أتوجه بالشكر لكم سيدي القاضي وزملائكم القضاة، وللسيد المدعي العام، ومحامي الادعاء وزملائي مدعي الحق العام والشهود والسادة المترجمون وكل من ساهم في هذه المحكمة. ولا أنسى أن أوجه شكراً خاصاً الى محاميي الدفاع، فوجودهم والجهود التي بذلوها في الدفاع عن المتهم، تعطي دليلاً مهماً بأن المحاكمات العادلة ممكنة في هذا العالم. حيث يتمتع المتهم بكل حقوقه إلى أن تتم إدانته. في الحقيقة إن توق السوريين إلى دولة فيها محاكمات عادلة كان من أهم أسباب قيامنا بالثورة.
وأخيراً أقول، عندما كنت معتقلاً، ذكّرني المحقق الذي لا أدري من هو، ولكنه بالتأكيد من محققي فرع الخطيب الذي كان أنور رسلان يرأس قسم التحقيق فيه. لقد ذكرني بآية من القرآن، وفيها ذكر لملائكة العذاب التسعة عشر في جهنم، وقد شبههم بالفروع الأمنية التسعة العشر الموجودة لدى النظام. وأنا بدوري أذكره بآية عظيمة من القرآن الكريم، يقول فيها سبحانه وتعالى ” وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ” صدق الله العظيم. وشكراً سيدي القاضي.
وكانت بذلك آخر مرافعة لطرف الادعاء بالحق المدني.