جريمة بعنوان “إعادة الإعمار”
صدر عن “المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية” و”مركز دراسات الجمهورية الديمقراطية” دراسة جديدة على شكل كتاب إلكتروني بعنوان: “جريمة بعنوان إعادة الإعمار”، تعد “ميسلون للطباعة والنشر” لطباعته ونشره ورقيًّا. وتحدثت الدراسة في مقدمتها عن جرائم سلطة الأسد وحلفائها، ومنها جريمة التغيير الديموغرافي الكامل في مناطقَ بحيث لا يسمح بعودة سكانها الأصليون، وجريمة الهندسة الديموغرافيّة القسريّة في مناطق بحيث لا يستطيع سكانها العودة إليها بشكل كامل عبر إجراء تغييرات تمنعهم من العودة إلى الوضع الذي كانوا عليه، وتحدثت عن موقع المخطّطات التنظيميّة في هذا السياق، وموقع ملفّ اللاجئين والنازحين السوريّين الذي تعمل سلطة الأسد، بعد ارتكابها جريمة التهجير القسري، باستغلاله كأزمةٍ إنسانيّةٍ عالميّةٍ عالقةٍ لتفاوض عليها وتبتز المجتمع الدولي فيها. وهو ما ظهر جليًّا في المؤتمر الذي عقدته مؤخّرًا تحت عنوان عودة اللاجئين السوريّين على أمل استعادة دور الشريك مع الدول التي تتعرّض لضغوطٍ سياسيّةٍ داخليّةٍ نتيجة الخلاف على موضوع اللاجئين، وفي سياق مساعيها لابتزاز العالم لتمويل إعادة بناء النظام في سورية، والتبرّؤ من مسؤولية التهجير القسري. إلّا أنّ روسيا وسلطة الأسد قد فشلتا في تحقيق تجاوبٍ دوليٍّ مؤثرٍ مع هذا المؤتمر الذي قاطعته الدول الرئيسة المستضيفة للاجئين وبمقدمها دول الاتحاد الأوروبي وتركيا، ولم ينجح إلا بإعطاء نموذج آخر على حالة سلطة الأسد المتهافتة وانفصالها عن السوريين واستغلالها معاناتهم لدرجة أنها ربطت، على لسان بشار الأسد، بين رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها من الغرب وعودة ملايين اللاجئين والنازحين إلى مناطقهم، مشترطة حصول الأولى لتحقيق الثانية.
ووضعت الدراسة فرضية قامت بإثباتها تقول: تُجري سلطة الأسد عمليّة إعادة بناء النظام بحيث يتماشى مع ما وصلت إليه من علاقات ومصالح، على أمل أن تستطيع تجاوز التناقضات التي ظهرت في نظامها المنهار بين عقيدة قائمة على رفض التفاوت الطبقي وبين هيمنة رأسمالية الأقارب والمحاسيب عبر نظامٍ مركزيٍّ استبداديٍّ سياسيًّا وأمنيًّا، ومركزيٍّ اقتصاديًّا عبر شبكة الأقارب والمحاسيب. أي إنها تحاول أن تعيد بناء النظام ليكون نظامًا سياسيًّا سلطانيًّا تامًّا. وفي سياق هذه العملية تقوم سلطة الأسد بعقاب السكان الثائرين عليها، وتطويعهم ثم إخضاعهم، وقتل واعتقال وتهجير من يأبى التطويع، عبر جريمتي التغيير الديموغرافي في مناطقَ، والهندسة الديموغرافية القسرية في مناطقَ أخرى. مستخدمة التهجير القسري بكل الحالات، وغصب أملاك من هجّرتهم، للوصول إلى ما أسماه رأسها “المجتمع المتجانس”. وبهذا السياق تأتي المخططات التنظيمية، والتشريعات والقوانين التي تستند إليها لتعطيها شرعيّة قانونية، كجزء من عملية إعادة بناء نظام استبدادي قهري تمييزي متشابكًا مع توطين الوجودين الروسي والإيراني.
ومع تطور الحرب ارتبطت عملية إعادة بناء النظام بعملية إعادة الإعمار ارتباطًا عضويًّا، حتى صار الصراع على إعادة الإعمار هو الصراع على النظام نفسه. وفي هذا المشهد تحاول روسيا السيطرة على وكالة العملية برمتها، واعدةً الأطراف بمراعاة مصالحهم وإدارتها بالنيابة عنهم. بينما تحاول إيران التعضّي في سورية، للتجهيز لأطوار جديدة للصراع تراهن على أنها ستكون فيها قد تصالحت مع الغرب، أو تكون فيها إدارة أميركية أقل تطرّفًا معها تقبل إدارة طويلة للصراع بينهما مما يتيح لها القدرة على الحركة والانتشار.
وللقيام بالواجب الذي تصدّينا له، اعتمدنا في هذه الدراسة على المنهج الوصفيّ، ومنه أداة الملاحظة، وأداة المقابلة المعمّقة مع الشهود، وتسجيل وجمع وتنظيم المعطيات الناتجة عن ملاحظتنا ورصدنا المباشر والمتواصل للوقائع منذ اندلاع الاحتجاجات في سورية في آذار/ مارس 2011. كما اعتمدنا القياس والمقارنة وفلترة المعلومات والمعطيات والشهادات التي بحوزتنا، وبعد ذلك رجّحنا المتّفق عليه وما قدّرنا أنّه الأكثر موضوعيّةً بينها، ليصبح معطًى يمكن الاستناد إليه في دراستنا.
واعتمدنا التوثيق عن طريق دراسة الوثائق والسجلّات (قرارات، وقوانين ومراسيم، واعتراضات أصحاب الحقوق، ومقابلات تلفزيونيّة، وتقارير، وأعمال ميدانيّة سابقة لفريقنا، وتحقيقات، وأخبار، وصور…).
وطوال الوقت اعتمدنا تحليل البيانات والمعلومات في جلسات تفكيرٍ جماعيّةٍ لفريق العمل، للخلوص إلى النتائج.
وقد رصدت هذه الدراسة، وحلّلت، في فصلها الثاني (بعدما قدّمت في فصلها الأوّل مدخلها، وأهميتها، والصعوبات التي واجهت الباحثَين، ومنهجيتها ومخطّطها) أبرز عناصر منهجيّة سلطة الأسد في النهب واغتصاب أملاك السوريين والتي لم تسلم منها حتى أنقاض بيوتهم؛ إذ استعرضت أهم القوانين والتشريعات والمراسيم التي صدرت بعد آذار/ مارس 2011، في ما يتعلّق بموضوع الملكيّة، وخلصت إلى أن تلك التشريعات تنتهك القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني الذي يشدّد على صون الملكية وحمايتها. وهذا الانتهاك يتجلّى في مصادرة أو تجميد أو حجز أملاك معارضين لسلطة الأسد، إضافة إلى أنّ القوانين والتشريعات التي استندت إليها المخططات التنظيمية لم تشرك المالكين بالقرارات التي تخص مستقبل أملاكهم، ووضعت بعضهم ضمن ممرّاتٍ إجباريّةٍ تحيلهم في النهاية إلى التخلّي عن ملكياتهم وبيعها في المزاد العلني لمصلحة حيتان شبكة الأقارب والمحاسيب حجر الأساس في إعادة بناء النظام الأسدي، والشركات الخاصة المرتبطة بها، كما ركزت على مصطلحات وردت في هذه القوانين والتشريعات وفضحت المت عنه، ولاسيّما ما يفضح الشروع في عملية هندسة ديموغرافية قسرية. بعدها تطرّقت الدراسة إلى المخططات التنظيمية وسجّلت ملاحظاتها التي توصّلت إليها من خلال رصد تلك المخطّطات التعسفيّة ودرستها بغية معرفة دوافعها وأهدافها، مقدمة نماذج من المخطّطات التنظيمية ونماذج عن اعتراضات السكان كمثال إلى ما ذهبت إليه.
كما عَدّت الدراسة التهجير القسري أحد عناصر منهجية غصب أملاك السكان وعقابهم في آن، لتستعرض بعدها أهمَّ المواثيق الدولية التي تعدّ التهجير القسري جريمةً ضد الإنسانية، وجريمة حرب. بعد ذلك بيّنت الدراسة أهداف سلطة الأسد وحلفائها من التهجير القسري، ثمّ عرّجت على المناطق التي استهدفتها سلطة الأسد وحلفاؤها بالتهجير ومنهجية التهجير وخطواته ومراحله، ثمّ استعرضت الممارسات التي ارتكبتها سلطة الأسد وحلفاؤها بحق سكّان تلك المناطق ودفعتهم إلى ترك مناطق سكنهم. وميّزت الدراسة بين التهجير القسري، والتهجير القسري كجزءٍ من عملية تغييرٍ ديموغرافيّ، والتهجير القسري كجزء من هندسة ديموغرافية قسرية.
كما أوضحت الدراسة دوافع وأهداف سلطة الأسد من تدمير ممتلكات السكان وسلبها، وكيف انتقلت من طور الحوادث العشوائية إلى طور التنظيم ثم المنهجيّة، فعرجت على ظواهر “التعفيش” وتدمير البيوت واقتلاع الأشجار وحرق الأسواق والأراضي الزراعية والحراجية وتدمير وثائق الملكية عبر استهداف دوائر السجل العقاري، جاهدةً لإظهار الهدف والمنهجيّة التي تقف خلف تلك الظواهر؛ فهي إضافة إلى أنها تهدف إلى غصب أملاك السوريين تهدف أيضًا إلى عقاب مجتمع العصاة وتغيير تركيبته السكّانية.
وفي الفصل الثالث استعرضت الدراسة عناصر منهجيّة إيران في سورية؛ حيث عمل النظام الإيراني، ولا يزال، مدفوعًا بطموحات إمبراطورية، على توطين نفوذه في سورية وذلك من خلال تكريس نفوذه في النظام المشرع في إعادة بنائه، وتوطين الوجود البشري الشيعي في مناطق تحددها إيران أنها إستراتيجية لها، وتوطين مؤسساتها (من ذلك المزارات، مكاتب إرشاد، مؤسسات “ثقافية”، مؤسسات تعليمية، كشافة، شركات، ميليشيات…)، إضافة إلى بناء منظومتها الخاصة بالعلاقة بالأقليات والقائمة على ثنائية الحماية وإدارة منفعة زعاماتها. وهي بهذا تدعم الطائفية في سورية وتدعم نضج التشكل الطائفي للطوائف.
وفي فصلها الرابع بحثت الدراسة في منهجيّة روسيا في إعادة بناء النظام الأسدي؛ حيث تهدف إلى إدارة هذه العملية، لتكريس سيطرتها في سورية، ومن ثمّ إقناع العالم بأنها بوابة الحلّ السياسي في سورية وبوابة الولوج إلى سورية في “اليوم التالي”، لتستحوذ بهذا على دور وكيل الدول ومنسّق مصالحها في سورية. واستعرضت الدراسة منهجية الاحتلال الروسي في محاولته السيطرة على سورية ومركز القرار فيها، عبر القبض على مراكز السيطرة والتحكم العسكرية، وعقد الاتفاقات ذات الطابع العسكري والاقتصادي، والعمل على تصنيع “هيبة الدولة السورية” التي أعطته، ولا تزال، شرعية التدخل العسكري في سورية منذ أيلول/ سبتمبر 2015، من خلال إعادة هيكلة الجيش، والحد من تغول الميليشيات على “الدولة”، وتوسيع هامش الديمقراطية على الطريقة الروسية، وتوزيع المساعدات والاهتمام بأسر قتلى سلطة الأسد، ورعاية المصالحات وتفريخ “المعارضات”.
وخلصت الدراسة في الخاتمة إلى مجموعة من الخلاصات والتوصيات.