الاعتقال أمضى سلاح لنظام الديكتاتور
عندما استتب له الأمن، بدأ حملة اعتقالات، طالت المعترضين على الدستور الذي فصّله على قياسه، وبعد ذلك طالت حملة الاعتقالات السوريين والفلسطينيين الذين احتجوا على دخول جيشه لبنان، ورفضوا الفظائع التي اقترفها هناك بحق الفلسطينيين، ولاسيما في مجزرة تل الزعتر،
ومن ثم؛ جاءت حركة الاحتجاجات الشعبية التي عمت معظم المحافظات السورية، وتحركت نقابات المحامين والأطباء والمهندسين؛ فطالت حملات القمع كلّ القيادات والرموز في هذه النقابات المعارضة،
واستخدم تحركَ الإخوان المسلمين، نهاية السبعينيات؛ ليسحق المجتمعَ السوري سحقًا، إما بدباباته وصواريخه، أو بالحجم الهائل للاعتقالات التي جرت على أدنى شبهة، وعلى وشايات شفهية فحسب، من دون حاجة إلى تقارير مكتوبة.
غيّب النظام في السجون والمعتقلات عشرات الألوف من السوريين، ما زال الآلاف منهم مجهولي المصير؛ حتى الآن.
ومع ربيع دمشق وبداية المنتديات والتحركات الثقافية المطالبة بالانفتاح والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، كانت الاعتقالات سلاحَ المواجهة التي استخدمها النظام، فاعتقل رموز المعارضة الذين علا صوتهم عام 2001، وأتبعها عام 2006 باعتقال مجموعة أخرى، ولم يستجب قطّ لأيٍّ من الضغوط التي مارسها المجتمع الدولي حينذاك، للإفراج عنهم؛ لأنه يعرف أن هذا هو أقوى سلاح، للسيطرة على المجتمع، ولو أنه استجاب لتلك الضغوط لفقد هذا السلاح، ولخرج المجتمع من تحت سيطرته.
ومع بداية الثورة السورية كان الاعتقال والتنكيل هما أقوى سلاح، فمنذ اعتقال الطفل حمزة الخطيب وتعذيبه، وانتشار التسريب المقصود للتعذيب الهائل الذي تعرض له، كان النظام يرسل رسالةً واضحةً تقول إن مصير أي صوت يعترض سيكون كمصير هذا الطفل، وإذا لم يراعِ النظام طفلًا، فكيف يمكن أن يراعي أي أحد آخر؟
وكان الاعتقال العشوائي الكبير وصور التعذيب وأوضاع الاعتقال وطريقة ممارسة الجيش والأمن على المعتقلين، وكانوا يصورونها ويسربونها، خطةً منهجيةً؛ لترهيب المجتمع من جديد، ولإفهام الجميع أن الموت ينتظرهم عند أبواب بيوتهم، إن فكروا تفكيرًا بمعارضة النظام،
ومنذ عام 2011 وحتى الآن، مرّ على سجون النظام ومعتقلاته مئات الألوف من السوريين، يُقدّر عددهم بأكثر من 500 ألف سوري، ما زال أكثر من 200 ألف منهم مغيبًا في السجون والمعتقلات، ولم تفلح كل المحاولات المبذولة، من المجتمع الدولي، ومن الوسطاء الدوليين الذين تعاقبوا على الوضع السوري، بإطلاق سراح أي معتقل.
لم تستطع روسيا، وهي من أصدقاء النظام، إجباره على إطلاق سراح أي من الشخصيات المقربة منهم، كعبد العزيز الخير ورفاقه، ورجاء الناصر، وغيرهم؛
فالنظام يعرف أن موضوع الاعتقال أقوى سلاح يملكه؛ لذا، يمسك به بقوة، ولن يتنازل عنه حتى آخر رمق، فهو سرّ وجوده، وسرّ استمرار خوف الناس منه، حتى إن السوريين خارج سورية يخافون من هذا السلاح أن يطال أهلهم أو أقربائهم،
ومن ثم؛ فلهذا السلاح امتداد داخلي وخارجي يطال السوريين أينما كانوا، ويضبط حركاتهم وأفكارهم، إضافة إلى أنه أداة ابتزاز سياسي تجاه المجتمع الدولي وأصدقاء النظام وأعدائه،
وقد أعلن ممثله في مفاوضات جنيف، على الملأ، أن ملف المعتقلين لن يكون أبدًا مجال تفاوض أو نقاش، واستجاب الجميع لهذا المطلب، وغُيّب ملف الاعتقال والمعتقلين من طاولة المفاوضات، إضافة إلى كون ملف الاعتقال أداة ابتزاز اقتصادي، إذ يسمح لعناصره بالإثراء على حساب هذا الملف، ويزيد ارتباطهم به،
وربما يكون هذا الملف والأموال التي استُخدمت به من أهم الملفات التي ما زالت تدعم وجود النظام اقتصاديًّا، وتغذي الموالين والمقاتلين مع النظام.
كيف يمكن أن يكون تحركنا تجاه هذا الوضع؟
ماذا يمكن أن نفعل، ونحن على يقين من أن النظام لن يستجيب لأي مطلب بإطلاق سراح المعتقلين كلهم أو بعضهم؟
أعتقد أننا نستطيع أن نستخدم هذا الملف بفاعلية أكبر، إذا جعلناه أحد ملفات الجرائم التي يرتكبها النظام، ودليلًا واضحًا على هذه الجرائم،
فالاعتقال جريمة تستوجب الحساب، وهو ليس عملًا شرعيًّا يعمله النظام كي نطالبه بأن يتوقف عن ذلك أو أن يعمل به ضمن القنوات القانونية.
أعتقد أننا نستطيع أن نحوّل المعتقلين من ضحايا إلى مدّعين أمام القضاء، وأن نضع النظام في موضع الاتهام والمحاكمة، ونرسل رسالةً إلى العالم، تفيد بأن هذا السلاح هو أكثر إجرامًا من استخدام الأسلحة المحرمة دوليًّا.
ما نستطيع أن نفعله كثير، وما نحتاج إليه تنسيق وتوجيه جهد الجميع ليكون صوتًا واحدًا يقضّ مضاجع مجرمي الحرب وأعداء الإنسانية، ونجبر العالم على التصرف ليس لإجبار النظام على إطلاق سراح المعتقلين فحسب، وإنما على القيام بتحريرهم بالقوة.
***
أنور البنّي ـ محامي سوري ورئيس المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية